قال ابن الجوزي: (من هفا هفوة لم يقصدها ولم يعزم عليها قبل الفعل، ولا عزم على العودة بعده، ثمّ انتبه فاستغفر الله كان فعله وإن دخله عمداً في مقام خطأ، مثل أن يعرض له مستحسن (8) فيغلبه الطّبع فيطلق النّظر، فإذا انتبه لنفسه ندم على فعله، فقام النّدم بغسل الأوساخ الّتي كأنّها غلطة لم تُقصد، فهذا معنى قوله تعالى:} إنّ الّذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشّيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون {[الأعراف: 201].
فأمّا المداوم على تلك النّظرة المردّد لها، المصرّ عليها، فكأنّه في مقام متعمّدٍ للنّهي مبارزٍ بالخلاف، فالعفو يبعد عنه بمقدار إصراره) (9).
أكثر من الاستغفار
قد يضعف إيمان المؤمن عن التّوبة من ذنب معيّن، أو لربّما لا تساعده ظروف حياته على الإقلاع عن هذا الذّنب.
وإذا كان الحال هكذا فلا ينبغي للمؤمن أن يعجز عن الاستغفار، فالاستغفار من أسباب المغفرة، ومن وسائل تخفيف أثر الذّنب، وهذا ليس بمستنكر.
فالاستغفار المقرون بالتّوبة له شأن آخر، لأنّ من تاب من الذّنب توبة مكتملة الشّرائط وجبت له من الله المغفرة.
وأمّا الاستغفار دون إقلاع عن الذّنب فإنّه وإن كان أقلّ درجة لكن لا يُعدم العبد منه فائدة، لأنّه تعرّض بالدّعاء لنيل رحمة الله تعالى ومغفرته للذّنب.
والسّلف رحمهم الله قرّروا ونبّهوا أنّ مجرّد الاستغفار دون الإقلاع عن الذّنب أو العزم عليه ليس التّوبة الّتي وعد الله عليها بالمغفرة.
وبيانه أنّ الاستغفار درجات:
أولاها: الاستغفار المقرون بالتّوبة وهي أعلاها، ومذهب أهل السّنّة الجزم بترتّب المغفرة على الاستغفار المقرون بالتّوبة للنّصوص المتوافرة على ذلك، ومنها قوله e :
( التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له) (10).
قال ابن رجب: (فالاستغفار التّامّ الموجب للمغفرة هو ما قارن عدم الإصرار كما مدح الله أهله ووعدهم المغفرة .. وهو حينئذ توبة نصوح) (11).
الثّانية: الاستغفار بالقلب واللّسان من الذّنب لكن دون أن يقترن به توبة أو عزم على الإقلاع، وهذه أدنى من الّتي قبلها لكنّها محمودة.
وهي واقعة يقع فيها كثير من النّاس، فهو إذا واقع ذنباً لامته نفسه فيستغفر ويدعو الله أن يغفر له لكن لا يقارن ذلك عزمه على الإقلاع لضعف إيمانه وشدّة تعلّق قلبه بالذّنب، أو لغفلته عن التّوبة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فإن الإستغفار هو طلب المغفرة وهو من جنس الدّعاء والسؤال، وهو مقرون بالتوبة في الغالب ومأمور به، لكن قد يتوب الإنسان ولا يدعو، وقد يدعوا ولا يتوب) وساق حديث أبي هريرة المتقدّم ( ... علم عبدي أنّ له ربّاً يغفر الذّنب ويأخذ به، أشهدكم أنّي قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء) (12) ثمّ قال: (والتّوبة تمحو جميع السّيئات، ... وأمّا الاستغفار بدون التّوبة فهذا لا يستلزم المغفرة، ولكن هو سبب من الأسباب) (13).
الثّالثة: الاستغفار العام باللّسان دون القلب، لكن بدون توبة من ذنب معيّن أو إقلاع عنه، قال ابن رجب: (وإن قال بلسانه: أستغفر الله وهو غير مقلع بقلبه فهو داعٍ لله بالمغفرة كما يقول: اللّهمّ اغفر لي، وهو حسنٌ وقد يُرجى له الإجابة، وأمّا من قال: توبة الكذّابين فمراده أنّه ليس بتوبة كما يعتقده بعض النّاس، وهذا حق، فإنّ التّوبة لا تكون مع الإصرار) (14).
وقال: (ومجرّد قول القائل: اللّهمّ اغفر لي طلب للمغفرة ودعاء بها، فيكون حكمه حكم سائر الدّعاء إن شاء أجابه وغفر لصاحبه، لا سيّما إذا خرج من قلب منكسر بالذّنب وصادف ساعة من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصّلوات.
ويُروى عن لقمان عليه السّلام أنّه قال لابنه: يا بنيّ عوّد لسانك: اللّهمّ اغفر لي فإنّ لله ساعات لا يردّ فيها سائلاً.
وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وعلى موائدكم وفي طرقكم وفي اسواقكم وفي مجالسكم وأينما كنتم فإنّكم لا تدرون متى تنزل المغفرة) (15).
لقد تعهّد إبليس أن يكسر نفس ابن آدم ويذلّها بالمعصية، وإذا كان كذلك فما من شيء اشدّ عليه في حال المعصية من أن يستغفر العاصي، قال الحسن رحمه الله تعالى: بلغنا أنّ إبليس قال: سوّلت لأمّة محمّد e المعاصي، فقصموا ظهري بالاستغفار. (16)
والله أعلم، وأعتذر عن الإطالة.
=====================
1. أخرجه مسلم في التّوبة ح 2748.
2. رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرّقاق باب قول النّبيّ e ( لو تعلمون ما أعلم) عن أبي هريرة وأنس tما.
3. أخرجه البخاري في التّوحيد 7507 ومسلم في التّوبة ح2758.
4. مدارج السّالكين 1/ 301.
5. المستدرك 1/ 59 وصحّحه ووافقه الذّهبي.
6. جامع العلوم والحكم 1/ 414 ـ415.
7. جامع العلوم والحكم 1/ 418.
8. يقصد امرأة حسناء.
9. صيد الخاطر ص168.
10. أخرجه ابن ماجة برقم 4250 والطّبراني في الكبير 1028 وأبو نعيم في الحلية 4/ 210 وغيرهم، وفي سنده ضعف، وحسّنه الحافظ بشواهده كما في المقاصد للسّخاوي ص 152.
11. شرح الأربعين 2/ 410.
12. تقدّم.
13. منهاج السّنّة 6/ 210ـ212.
14. جامع العلوم والحكم 2/ 410.
15. جامع العلوم والحكم 2/ 408.
16. الإحياء للغزالي 1/ 153.
¥