تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أحدها: أنه لو كان هذا مقدارا فاصلا بين الحلال والحرام , والطاهر والنجس , لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم بيانه بيانا عاما متتابعا تعرفه الأمة , كما بين نصب الزكوات , وعدد الجلد في الحدود , ومقدار ما يستحقه الوارث , فإن هذا أمر يعم الابتلاء به كل الأمة , فكيف لا يبينه , حتى يتفق سؤال سائل له عن قضية جزئية فيجيبه بهذا , ويكون ذلك حدا عاما للأمة كلها لا يسع أحدا جهله , ولا تتناقله الأمة , ولا يكون شائعا بينهم , بل يحالون فيه على مفهوم ضعيف , شأنه ما ذكرناه , قد خالفته العمومات والأدلة الكثيرة , ولا يعرفه أهل بلدته , ولا أحد منهم يذهب إليه؟

الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قال: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} وقال: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} فلو كان الماء الذي لم يتغير بالنجاسة: منه ما هو حلال ومنه ما هو حرام , لم يكن في هذا الحديث بيان للأمة ما يتقون , ولا كان قد فصل لهم ما حرم عليهم. فإن المنطوق من حديث القلتين لا دليل فيه , والمسكوت عنه كثير من أهل العلم يقولون لا يدل على شيء , فلم يحصل لهم بيان , ولا فصل الحلال من الحرام. والآخرون يقولون: لا بد من مخالفة المسكوت للمنطوق , ومعلوم أن مطلق المخالفة لا يستلزم المخالفة المطلقة الثابتة لكل فرد من أفراد المسكوت عنه , فكيف يكون هذا حدا فاصلا؟ فتبين أنه ليس في المنطوق ولا في المسكوت عنه فصل ولا حد.

الثالث: أن القائلين بالمفهوم إنما قالوا به إذا لم يكن هناك سبب اقتضى التخصيص بالمنطوق , فلو ظهر سبب يقتضي التخصيص به لم يكن المفهوم معتبرا , كقوله {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق}: فذكر هذا القيد لحاجة المخاطبين إليه , إذ هو الحامل لهم على قتلهم , لا لاختصاص الحكم به. ونظيره {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} ونظائره كثيرة. وعلى هذا فيحتمل أن يكون ذكر القلتين وقع في الجواب لحاجة السائل إلى ذلك , ولا يمكن الجزم بدفع هذا الاحتمال. نعم لو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا اللفظ ابتداء من غير سؤال لاندفع هذا الاحتمال.

الرابع: أن حاجة الأمة - حضرها وبدوها , على اختلاف أصنافها - إلى معرفة الفرق بين الطاهر والنجس ضرورية , فكيف يحالون في ذلك على ما لا سبيل لأكثرهم إلى معرفته؟ فإن الناس لا يكتالون الماء , ولا يكادون يعرفون مقدار القلتين: لا طولهما , ولا عرضهما , ولا عمقهما! فإذا وقعت في الماء نجاسة فما يدريه أنه قلتان؟ وهل تكليف ذلك إلا من باب علم الغيب , وتكليف ما لا يطاق؟ فإن قيل: يستظهر حتى يغلب على ظنه أنه قلتان: قيل: ليس هذا شأن الحدود الشرعية , فإنها مضبوطة لا يزاد عليها ولا ينقص منها , كعدد الجلدات , ونصب الزكوات , وعدد الركعات , وسائر الحدود الشرعية.

الخامس: أن خواص العلماء إلى اليوم لم يستقر لهم قدم على قول واحد في القلتين , فمن قائل: ألف رطل بالعراقي , ومن قائل: ستمائة رطل , ومن قائل: خمسمائة , ومن قائل: أربعمائة. وأعجب من هذا: جعل هذا المقدار تحديدا! فإذا كان العلماء قد أشكل عليهم قدر القلتين , واضطربت أقوالهم في ذلك , فما الظن بسائر الأمة؟ ومعلوم أن الحدود الشرعية لا يكون هذا شأنها.

السادس: أن المحددين يلزمهم لوازم باطلة شنيعة جدا. منها: أن يكون ماء واحد إذا ولغ فيه الكلب تنجس! وإذا بال فيه لم ينجسه ومنها: أن الشعرة من الميتة إذا كانت نجسة فوقعت في قلتين إلا رطلا مثلا أن ينجس الماء , ولو وقع رطل بول في قلتين لم ينجسه! ومعلوم أن تأثر الماء بهذه النجاسة أضعاف تأثره بالشعرة , فمحال أن يجيء شرع بتنجس الأول وطهارة الثاني. وكذلك ميتة كاملة تقع في قلتين لا تنجسها , وشعرة منها تقع في قلتين إلا نصف رطل أو رطلا فتنجسها! إلى غير ذلك من اللوازم التي يدل بطلانها على بطلان ملزوماتها: وأما جعلكم الشيء نصفا ففي غاية الضعف , فإنه شك من ابن جريج. فيا سبحان الله! يكون شكه حدا لازما للأمة , فاصلا بين الحلال والحرام , والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين لأمته الدين , وتركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها , فيمتنع أن يقدر لأمته حدا لا سبيل لهم إلى معرفة إلا شك حادث بعد عصر الصحابة , يجعل نصفا احتياطيا؟ وهذا بين لمن أنصف. والشك الجاري الواقع من الأمة في طهورهم وصلاتهم قد بين لهم حكمه ليندفع عنهم باليقين , فكيف يجعل شكهم حدا فاصلا فارقا بين الحلال والحرام؟

ثم جعلكم هذا احتياطا: باطل , لأن الاحتياط يكون في الأعمال التي يترك لتكلف منها عملا لآخر احتياطا , وأما الأحكام الشرعية والإخبار عن الله ورسوله فطريق الاحتياط فيها أن لا يخبر عنه إلا بما أخبر به , ولا يثبت إلا ما أثبته. ثم إن الاحتياط هو في ترك هذا الاحتياط , فإن الرجل تحضره الصلاة وعنده قلة ماء قد وقعت فيها شعرة ميتة , فتركه الوضوء منه مناف للاحتياط. فهلا أخذتم بهذا الأصل هنا , وقلتم: ما ثبت تنجيسه بالدليل الشرعي نجسناه , وما شككنا فيه رددناه إلى أصل الطهارة؟ لأن هذا لما كان طاهرا قطعا وقد شككنا: هل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنجيسه أم لا؟ فالأصل الطهارة.

وأيضا: فأنتم لا تبيحون لمن شك في نجاسة الماء أن يعدل إلى التيمم , بل توجبون عليه الوضوء. فكيف تحرمون عليه الوضوء هنا بالشك؟

وأيضا: فإنكم إذا نجستموه بالشك نجستم ما يصيبه من الثياب والأبدان والآنية , وحرمتم شربه والطبخ به , وأرقتم الأطعمة المتخذة منه. وفي هذا تحريم لأنواع عظيمة من الحلال بمجرد الشك , وهذا مناف لأصول الشريعة. والله أعلم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير