وروي في بعض كتب المولد النبوي عن أبي هريرة قال: سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام فقال: يا جبريل كم عمّرتَ من السنين؟ فقال: يا رسول الله لست أعلم غير أن في الحجاب الرابع نجمًا يطلع في كل سبعين ألف سنة مرة، رأيته اثنتين وسبعين ألف مرة، فقال النبيّ: وعزة ربي أنا ذلك الكوكب. وهذا كذب قبيح، قبّح الله من وضعه وافتراه.
وذكر بعض غلاة المتصوّفة أن جبريل عليه السلام كان يتلقّى الوحي من وراء حجاب وكُشف له الحجاب مرة فوجد النبيّ صلى الله عليه وسلم يوحي إليه فقال جبريل: منك وإليك. قلت: لعن الله من افترى هذا الهراء المخالف للقرءان فإن الله تعالى يقول لنبيّه: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) [سورة الشورى ءاية 52] ويقول: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ, عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ,) [سورة الشعراء ءاية 193, 194].
أخرج أحمد والحاكم والبيهقي في الدلائل عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني عند الله في أمّ الكتاب لخاتم النبيّين، وإن ءادم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بتأويل ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك ترى أمهات الأنبياء".وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه أحمد بأسانيد، والبزار والطبراني بنحوه" ... "أحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد، وقد وثقه ابن حبّان"اهـ. قلت: رواه الحاكم من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن سويد بن سعيد، عن العرباض بن سارية، وقال: "صحيح الإسناد" وتعقّبه الذهبي بأن أبا بكر ضعيف، وغلط الدكتور قلعجي محقّق كتاب دلائل النبوة فذكر أن الذهبي وافقه على تصحيحه.
وروى أحمد من طريق بُدَيْل عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر قال: "قلت: يا رسول الله متى كنت نبيًّا؟ قال: "وءادم بين الروح والجسد". وهكذا رواه البغوي وابن السكن في الصحابة. قال الحافظ: وهذا سند قوي. قلت: وذكره البخاري في التاريخ معلقًا. روى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوّة؟ قال: بين خلق ءادم ونفخ الروح فيه". وروى أحمد من طريق عبد الله بن شقيق، عن رجل قال: "قلت: يا رسول الله متى جعلت نبيًّا؟ قال: وءادم بين الروح والجسد". قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. قلت: هو أحد طرق حديث ميسرة الفجر.
وقال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا عفّان ابن مسلم وعمرو بن عاصم الكلابي قالا: حدّثنا حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن عبد الله ابن شقيق، عن عبد الله بن أبي الجدعاء قال: "قلت: يا رسول الله متى كنت نبيًّا؟ قال: إذ ءادم بين الروح والجسد"اهـ. رجاله رجال الصحيح. وروى البزار والطبراني بإسناد ضعيف عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: "قيل: يا رسول الله متى كنت نبيًّا؟ قال: وءادم بين الروح والجسد". قال البيهقي: قوله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله في أمّ الكتاب لخاتم النبيين وان ءادم لمنجدل في طينته" يريد انه كان كذلك في قضاء الله وتقديره قبل أن يكون أبو البشر وأوّل الأنبياء صلوات الله عليهم" اهـ.
وقال أبو الحسين بن بشران، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو، حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، ثنا محمد بن صالح، ثنا محمد بن سنان العَوفي، ثنا إبراهيم بن طَهمان، عن بُدَيل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة قال: قلت: يا رسول الله متى كنت نبيًّا؟ قال: "لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وخلق العرش كتب على ساق العرش: محمّد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنّة التي أسكنها ءادم وحوّاء فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام، وءادم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبر أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه" اهـ، إسناد جيد قوي. وهو يفيد أن معنى كونه نبيًّا: إظهار ذلك في العالم العلوي قبل نفخ الروح في ءادم عليه السلام.
وقد بيَّن الحديث أيضًا سر إعلان نبوته في ذلك العهد وانه يرجع إلى أمرين اختص بهما: أحدهما: انه سيد ولد ءادم. والآخر: أنه خاتم الأنبياء، وأيَّد ذلك بما ذكره من بشارة إبراهيم وعيسى به عليهم الصلاة والسلام. والأنبياء جميعًا نبوتهم ثابتة في تقدير الله وقضائه، لكن لم يَرد في خبر أن الله تعالى أظهر نبوة أحد منهم بالتعيين قبل خلق ءادم، فلم يكن ذلك إلاّ لنبيّنا صلى الله عليه وسلم وهذا سر قوله: "كنت نبيًّا وءادم بين الروح والجسد" أي أن حملة العرش والملائكة عرفوا اسمه ونبوته قبل خلق ءادم عليه السلام، وهم لم يعرفوا ءادم إلاّ بعد خلقه.
تنبيه
حديث: "كنت نبيًّا وءادم بين الماء والطين" لا أصل له، وكذلك حديث: "كنت نبيًّا ولا ءادم ولا ماء ولا طين" لا أصل له أيضًا. ما يوجد في كتب المولد النبويّ من أحاديث لا خطام لها ولا زمام هي من الغلو الذي نهى الله ورسوله عنه، فتحرم قراءة تلك الكتب، ولا يقبل الاعتذار عنها بأنّها في الفضائل لأن الفضائل يتساهل فيها برواية الضعيف، أمّا الحديث المكذوب فلا يقبل في الفضائل إجماعًا، بل تحرم روايته -إلا مع بيان أنه موضوع-.
والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "من حدّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" يرى بضم الياء: معناه يظن.
ويقول: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار" وفضل النبي صلى الله عليه وسلم ثابت في القرءان الكريم، والأحاديث الصحيحة، وهو في غنى عما يقال فيه من الكذب والغلو، وقال صلى الله عليه وسلم: "لاتطروني كما أطرت النصارى عيسى فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".
وتم تحرير هذه العجالة يوم الأحد 25 من ذي القعدة سنة 1408هـ. والحمد لله أولاً وءاخرًا وصلى الله على سيدنا محمد وءاله وسلّم.
¥