قلت: بكير بن مسمار لا يحتج به في مثل هذا. قال عنه ابن حجر في التقريب: «صدوق». وقال الذهبي في الكاشف: «فيه شيء». و قال العجلي (متساهل): «ثقة». و قال النسائي: «ليس به بأس» (وهذا دون التوثيق). و قال أبو أحمد بن عدي: «مستقيم الحديث». وقال البخاري: «فيه نظر» كما في تهذيب الكمال. وذكر له هذا الحديث في التاريخ الكبير (2\ 115) وقال: «فيه بعض النظر»، وما روى له شيئاً. وذكره العقيلي في ضعفاءه (#191). وقال ابن حزم في المحلى (9\ 47): «بكير بن مسمار ضعيف». وقال عنه الذهبي في "المغني في الضعفاء" (1\ 180): «صدوق، لينه ابن حبان البستي وابن حزم وقال البخاري: فيه نظر».
المدة التي بين وفاة بكير ووفاة سعد هي 98 سنة، أي قرابة قرن كامل، فلا شك في عدم سماع بكير من سعد. كلمة "أَمَرَ معاوية سعداً" هي من كلام بكير لا من كلام سعد، إذ لو كانت من كلام سعد لقال "أمرني معاوية". فيكون قد روى بالمعنى وتصرف بالألفاظ. فقد جاء الحديث عند الحاكم عن بكير بن مسمار قال: سمعت عامر بن سعد يقول: قال معاوية لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: «ما يمنعك أن تسب ابن أبي طالب؟». فهذا إسناد متصل.
أما قول معاوية "ما منعك أن تسب أبا التراب" فهو استفسار عن عدم سب سعد، ولم يأمره بذلك. يقول النووي في شرحه: «قول معاوية هذا، ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب، كأنه يقول هل امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك. فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب، فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك، فله جواب آخر. ولعل سعداً قد كان في طائفة يسبّون، فلم يسب معهم، وعجز عن الإنكار وأنكر عليهم فسأله هذا السؤال. قالوا: ويحتمل تأويلاً آخر أن معناه: ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده، وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ».
وقد حصل اضطراب كبير في الحديث. فقد رواه ابن ماجة (1\ 45) من طريق ابن سابط عن سعد بن أبي وقاص قال قدم معاوية في بعض حجاته فدخل عليه سعد فذكروا عليا فنال منه فغضب سعد وقال تقول هذا لرجل سمعت رسول الله ? يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه. وسمعته يقول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. وسمعته يقول: لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله.
وابن سابط لم يسمع من سعد بن أبي وقاص كما نص يحيى بن معين. ومعاوية ? كان بالشام وقت الفتنة ولم يلتق بسعد ? إلا في حجته سنة 51 هجرية. وقد قدم لمكة للحج ومرة بطريقه للمدينة و دعا الناس لبيعة ابنه يزيد. فهل كان هذا الجو المتوتر القلق مناسباً حتى يطلب معاوية من الناس سب علي بعد سنوات طويلة من هدوء الفتنة؟ وهل يعقل هذا من داهية العرب معاوية؟
وقد رواه النسائي في السنن الكبرى (5\ 144) قال: أخبرني عمران بن بكار بن راشد قال حدثنا أحمد بن خالد (جيد) قال حدثنا محمد (بن إسحاق، مدلّس) عن عبد الله بن أبي نجيح عن أبيه (ثقة): أن معاوية ذكر علي بن أبي طالب فقال سعد بن أبي وقاص: والله لأن تكون لي إحدى خلاله الثلاث، أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس. لأن يكون قال لي ما قاله له حين رده من تبوك: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، أحب إلي أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس. ولأن يكون قال لي ما قال في يوم خيبر: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرار، أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس. ولأن أكون كنت صهره على ابنته لي منها من الولد ما له، أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس.
وهذه رواية حكاها مطولة ابن كثير في "البداية والنهاية" وأنها حدثت في دار معاوية بمكة بعد إتمام مناسك الحج. وليس فيها أن ليس فيها أن معاوية أمر سعداً بشيء، ولا أن معاوية سأل سعداً عن سبب عدم شتمه لعلي. وليس فيها ذكر لإسطورة الكساء. فبجمع الروايات يتبين لنا ما يلي:
1) جاء في رواية بكير من مسمار عند الحاكم في المستدرك (3\ 117) والنسائي في السنن الكبرى (5\ 122): «والله ما ذكره معاوية بحرف حتى خرج من المدينة». وهذه الرواية قال عنها الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة». وعند البزار أن سعداً قال: «فلا والله ما ذكره ذلك الرجل بحرف حتى خرج من المدينة».
2) بينما الرواية الأخرى التي يرويها ابن إسحاق قد حدثت في مكة. فهل يعقل أن معاوية شاهد سعداً مرة ثانية وسأله مرة ثانية عن عدم سبه لعلي وهو يعلم جوابه؟!
كما أننا نلاحظ اضطراباً كبيراً في الفضيلة الثالثة لعلي:
1) في رواية ابن سابط (عند ابن ماجة) هي حديث «من كنت مولاه فعلي مولاه».
2) وفي رواية قتيبة بن سعيد عن حاتم بن إسماعيل عن بكير بن مسمار (عند مسلم والترمذي) هي في قصة مباهلة نصارى نجران المتعلقة بالآية: {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم}.
3) وفي رواية هشام بن عمار عن حاتم عن بكير (في سنن النسائي الكبرى 5\ 107) هي في قصة الكساء المتعلقة بالآية: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت}. ورواية أبي بكر الحنفي عن بكير (عند البزار) تشير لقصة الكساء دون ذكر الآية.
4) في رواية ابن إسحاق أن الفضيلة الثالثة لعلي مرة هي مصاهرته للنبي ?.
فهذا اضطراب واضح بالحديث، مع ضعف كل تلك الأسانيد، مع العلم أن القصة واحدة. وما رواه ابن إسحاق يشبه أن يكون هو القصة الحقيقة لما حدث بين معاوية وسعد. و بكير بن مسمار رجل صدوق لكنه ليس بالحافظ، فوهم بالقصة واختلط عليه الأمر فأضاف قصة الكساء بدلاً من المصاهرة. أما ابن سابط فقد روى القصة عن ضعيف.
¥