حديث آخر
• قال ابن أبي شيبة (3/ 326): حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن حنظلة عن طاوس: أن عمر قبَّل الحجر وسجد عليه لكل قبلة وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله.
قلت: وهذا ضعيف أيضا , وفيه علتان:
الأولى: الانقطاع , فطاوس لم يدرك عمر كما في كتب المراسيل.
الثانية: الاضطراب، وبيانه كالآتي:
1. رواه إسحاق بن راهويه كما في المطالب العالية (2/ 38) قال: أخبرنا عبد الله بن موسى – كذا وقع وصوابه: عبيد الله بن موسى – ثنا حنظلة عن طاوس قال: كان عمر رضى الله عنه يقبِِّل الحجر ثم يسجد عليه ثم يقبِّله ثم يسجد عليه ثلاث مرات ... الحديث. باقيه أخرجوه.
قلت: كذا قال الحافظ، وكأنه يشير إلى أن تمام الحديث قول عمر: لولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتك.
قلت أيضا: وعبيد الله بن موسى هو العبسي , ثقة كما في التقريب.
وقد توبع على رواية الحديث بهذا السياق
فرواه الأزرقي في أخبار مكة (1/ 329) قال: حدثني جدي – وهو: أحمد بن محمد بن الوليد – عن سعيد بن سالم عن عثمان – وهو: ابن عمرو بن ساج - قال أخبرني حنظلة بن أبي سفيان الجمحي قال: رأيت طاوسا أتى الركن فقبَّله ثلاثا ثم سجد عليه وقال: قال عمر: إنك لحجر ولولا أني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتك.
ولكن ليس فيه ذكر سجود عمر كما ترى.
وعثمان بن عمرو بن ساج فيه ضعف كما في التقريب , إلا أنه توبع أيضا على عدم ذكر سجود عمر كما سيأتي.
وسعيد بن سالم هو القداح , وفيه ضعف أيضا.
ورواه الشافعي في الأم (2/ 257) وسقط فيه ذكر عثمان فليستدرك.
وتوبع عبيد الله بن موسى على ذكر سجود عمر:
فرواه عبد الرزاق (5/ 37) عن ابن المبارك أو غيره عن حنظلة قال: سمعت طاوسا يقول: قبَّل عمر الركن – يعني الحجر – ثم سجد عليه.
فقال حنظلة: ورأيت طاوسا يفعل ذلك.
قلت: وعبد الرزاق شك في تعيين شيخه، وعبيد الله بن موسى لم يذكر في شيوخه , فالظاهر أنه غيره. فتكون رواية عبد الرزاق هذه فيها متابعة لعبيد الله بن موسى , وإن كان المتابع لم يُعيَّن على سبيل الجزم.
2. الوجه الثاني من أوجه الاضطراب: (بدون ذكر سجود عمر)
قال ابن أبي شيبة (3/ 326): حدثنا وكيع عن حنظلة قال: رأيت طاوسا فعله , يعني سجد عليه.
وتوبع وكيع على عدم ذكر سجود عمر.
فروى الفاكهي (1/ 116) قال: حدثنا يعقوب بن حميد قال: ثنا محمد بن خالد المخزومي عن حنظلة بن أبي سفيان قال: كان طاوس إذا وجد الركن خاليا قبَّله ثم سجد عليه , وقبَّله وسجد عليه , وقبَّله وسجد عليه.
قلت: ويعقوب بن حميد هو ابن كاسب المدني صدوق ربما وهم كما في التقريب.
ومحمد بن خالد المخزومي إن كان هو المترجم في التقريب كما صرح بذلك محقق كتاب الفاكهي فهو مستور كما قال الحافظ.
ولكن لم يذكروا في ترجمته أنه يروي عن حنظلة بن أبي سفيان ولا عنه يعقوب بن حميد, فالله أعلم.
قلت: ثم تبين لي أن المترجم في التقريب راو آخر.
وأما الذي في هذا الإسناد فهو مترجم في ثقات ابن حبان (9/ 59) قال: يروي عن الثوري , روى عنه يعقوب بن حميد بن كاسب , ربما رفع وأسند.
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 815): محمد بن خالد مجروح.
وترجمه الحافظ في الميزان ونقل قول ابن الجوزي فيه، راجع الميزان (3/ 534).
وهذا الذي ذكرته الآن يستدرك على محقق كتاب الفاكهي.
تلخيص أوجه الاضطراب في الحديث السابق
• أما حميد بن عبد الرحمن فرواه عن حنظلة عن طاوس عن عمر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
• وأما عبيد الله بن موسى وابن المبارك أو غيره فروياه عن حنظلة عن طاوس عن عمر موقوفا عليه.
• وأما وكيع ومحمد بن خالد المخزومي وعثمان بن عمرو بن ساج فرووه عن حنظلة عن طاوس من فعله فقط.
وهذا الاضطراب شديد كما ترى يسقط هذه الرواية , والله تعالى أعلم.
ثم وقفت على وجه رابع من أوجه اضطراب حديث طاوس عن عمر:
وهو ما رواه النسائي في سننه (5/ 227) قال: أخبرنا عمرو بن عثمان قال حدثنا الوليد عن حنظلة قال: رأيت طاوسا يمر بالركن فإن وجد عليه زحاما مرَّ ولم يزاحم , وإن رآه خاليا قبَّله ثلاثا ثم قال: رأيت ابن عباس فعل مثل ذلك وقال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب فعل مثل ذلك ثم قال: إنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّلك ما قبَّلتك , ثم قال عمر:رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ذلك.
قلت: فلم يذكر السجود فيه إطلاقا.
ولكن الوليد بن مسلم وإن كان ثقة فإنه كثير التدليس والتسوية وقد عنعن , فلا يصح هذا الطريق إلى حنظلة , ولا أعلم متابعا للوليد على هذا السياق (وهو عدم ذكر السجود مطلقا).
فالعبرة إذا في الحكم على الحديث بالاضطراب بما سبق بيانه.
وخلاصة جميع ما سبق:
أن السجود على الحجر الأسود لم يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم , ولم يصح أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ولكن صح من فعل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما , والله تعالى أعلم.
وعلى ما سبق تقريره نخلص إلى أن السجود على الحجر الأسود ليس من السنن المستحبة، لأن الاستحباب حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي.
ولكن من فعله اقتداء بابن عباس فلا بأس، ولا ينكر عليه.
وهذا في نظري هو أعدل الأقوال في هذه المسألة، وهو وسط بين من قال باستحباب ذلك كما هو قول كثير من العلماء، وبين من حكم ببدعية ذلك كما هو رأي الإمام مالك رحمه الله كما في المدونة الكبرى (1/ 397).
والله تعالى أعلى وأعلم.
وكتبه:
أبو إبراهيم عمر الجزائري
صبيحة يوم الخميس 22 شوال 1423
منقول للفائدة
¥