قال ابن الصلاح رحمه الله: ((قد خرّج البخاري في صحيحه حديث جماعة ليس لهم غير راوٍ واحد ... وكذلك خرّج مسلم حديث قوم لا راوي لهم غير واحد، وذلك مصير منهما إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولاً مردوداً برواية واحد عنه)) ().
وقال الذهبي رحمه الله في الموقظة: ((الثقة من وثقه كثير ولم يضعف، ودونه من لم يوثق ولا ضعف، فإن خرّج حديث هذا في الصحيحين فهو موثق بذلك)).
وقال في موضع آخر: ((فمن احتجا به أو أحدهما ولم يوثق ولا غمز فهو ثقة حديثه قوي)) ().وذكر السخاوي رحمه الله جماعة ممن روى لهم البخاري ومسلم ولم يرو عنهم إلا راوٍ واحد فمنهم حصين بن محمد الأنصاري أخرجا له ولم يرو عنه إلا الزهري وأخرج البخاري لجارية أو جويرية بن قدامة وانفرد عنه أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي، وزيد بن رباح ولم يرو عنه إلا مالك، وأخرج مسلم كذلك لجماعة منهم جابر بن إسماعيل الحضرمي ولم يرو عنه إلا ابن وهب، وخباب المدني تفرد به عامر بن سعد، ثم علق السخاوي فقال: فإنهم مع ذلك موثقون ولم يتعرض أحد من أئمة الجرح والتعديل لأحد منهم بتجهيل، نعم جهل أبو حاتم محمد بن الحكم المروزي الأحول، أحد شيوخ البخاري في صحيحه والمنفرد عنه بالرواية لكونه لم يعرفه ولكن نقول: معرفة البخاري به التي اقتضت له روايته عنه ولو انفرد بهما كافية في توثيقه ... إلى أن قال: وبالجملة فرواية إمام ناقل للشريعة لرجل ممن لم يرو عنه سوى واحد في مقام الاحتجاج كافية في تعريفه وتعديله ().
أما إن روى عنه جماعة من الثقات ولم يجرح ولم يوثق فقد قال طائفة إنه يوثق بمجرد ذلك، قال السخاوي: وذهب بعضهم إلى أن مما تثبت به العدالة رواية جماعة من الجُلة عن الراوي وهذه طريقة البزار () في مسنده، وجنح إليها ابن القطان في الكلام على حديث قطع السدر من كتابه الوهم والإيهام ونحوه قول الذهبي في ترجمة مالك بن الخير الزيادي من ميزانه ().
وقد نقل عن ابن القطان أنه ممن لم تثبت عدالته، يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة، قال: وفي رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحداً نص على توثيقهم، والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح، لكن تعقبه شيخنا – يعني ابن حجر – بقوله: ما نسبه للجمهور لم يصرح به أحد من أئمة النقد إلا ابن حبان، نعم هو حق فيمن كان مشهوراً بطلب الحديث والانتساب إليه كما قررته في علوم الحديث ().
أقول: ما استدل به الذهبي من رجال الصحيحين يجاب عليه بما سبق أن الرواية لهم في مقام الاحتجاج توثيق لهم. وردّ عليه ابن حجر في اللسان بقوله: فإن هذا شيء نادر لأن غالبهم معروفون بالثقة إلا من خرجا له في الاستشهاد ().
وقال الذهبي في الموقظة: وقد اشتهر عند طوائف من المتأخرين إطلاق اسم الثقة على من لم يجرح مع ارتفاع الجهالة عنه، وهذا يسمى مستوراً ويسمى محله الصدق ويقال فيه شيخ ().
وقد نصر الشيخ المحدث الألباني رحمه الله ما ذهب إليه ابن القطان والذهبي ونقل قول ابن القطان وذكر أنه جرى عليها الذهبي وابن حجر في توثيق بعض الرواة الذين لم يسبقوا إلى توثيقهم.
قال ذلك الألباني في رده على من انتقد عليه توثيق الهيثم بن عمران العبسي وقد وثقه ابن حبان وروى عنه خمسة ()، وكذلك فعل شعيب الأرناؤوط وغيره حيث أعملوا هذا القول في تحقيقهم للمسند ().
أقول: والذي يظهر لي أن منهج المتقدمين بخلاف ذلك، فقد أسلفت فيما نقل عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال في عبدالرحمن بن وعلة أنه مجهول مع أنه روى عنه جماعة، وقول علي بن المديني في داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص: ليس بالمشهور مع أنه روى عنه جماعة ().
ومن تأمل كتب المتقدمين في التراجم يجد أنهم لا يوثقون بمجرد رواية جماعة من الثقات في كثير ممن ترجموا لهم، وانظر مثلاً ترجمة إسماعيل بن قيس العبسي أبو سعيد في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، فقد ذكر أنه روى عنه معن بن عيسى، وموسى بن إسماعيل والقواريري، ومع ذلك قال عنه أبو حاتم: مجهول ليس بالمشهور ()، وأيضاً في ترجمة صالح بن رستم الهاشمي أبو عبدالسلام الدمشقي ذكر أنه روى عنه عبدالرحمن بن يزيد بن جابر وسعيد بن أبي أيوب، وقال عنه أبو حاتم: مجهول لا نعرفه ().
وقد تقدم ما ذكره ابن رجب رحمه الله عن ابن المديني أنه ينظر إلى اشتهار الرجل بين العلماء وكثرة حديثه ونحو ذلك لا ينظر إلى مجرد رواية الجماعة عنه، وكذا قوله: لا عبرة بتعدد الرواة وإنما العبرة بالشهرة ورواية الحفاظ الثقات.
فالخلاصة: أن من روى عنه ولو واحد من أئمة النقل أهل النقد والتحري ممن لا يروي إلا عن الثقات ولم يُتَكلم فيه فإنه ينفعه ذلك، أما إن كان الراوي عنه ليس كذلك فإنه لا ينفعه ولو كثروا. والله
ـ[المنتظم]ــــــــ[02 - 01 - 04, 06:22 م]ـ
أين بقية البحث وكذلك الحواشي؟