بادئ ذي بدء لا يصح أن نحمل الألفاظ الشرعية على المعاني الاصطلاحية المتأخرة - أو على بعضها - دون بيِّنة ودليل؛ لأن واضع هذه الاصطلاحات لم يرد تبيين معاني تلك الألفاظ الشرعية، وقد يكون التوافق في الألفاظ فقط دون حقائق المسميات والمعاني.
ومن هذا الباب أود التنبيه على أمرٍ قد يخفى على كثيرين، وسبب الخطأ فيه هو ما سبق ذِكره.
وهذا الأمر هو الأجر المترتب على قراءة آيات القرآن الكريم، فالحرف الذي ورد ذِكره في الحديث ليس هو الحرف الذي اصطلح عليه علماء اللغة في بعض إطلاقاته، وهو ما يسمى " حروف الهجاء ".
فإن الحرف عند علماء اللغة والنحو يطلق على حروف الهجاء وعلى الحروف التي ليست باسم ولا فعل وقد جاءت لمعنى في غيرها مثل " في " و " من " و " على " … ..
وكما أن لفظ " الحرف " يطلق – كذلك – على الكلمة وعلى الجملة الكاملة.
ثانياً:
وهذه بعض النصوص والآثار على إطلاقات لفظ " حرف ":
1. إطلاق الحرف على حروف الهجاء:
أ. عن أبي وائل قال جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله فقال يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف ألفاً تجده أم ياءً {مِن ماء غير آسن} أو {مِن ماء غير ياسن}. قال: فقال عبد الله: وكلَّ القرآن قد أحصيتَ غير هذا!؟ قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة، فقال عبد الله: هذّاً كهذِّ الشِّعر. رواه مسلم (822).
ب. قال البخاري:
باب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفا وقال أبو حازم عن أبي هريرة قال لي النَّبي صلى الله عليه وسلم يا أبا هر. كتاب الأدب
وروى تحته حديثين وهما:
أ. عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام، قلت: وعليه السلام ورحمة الله، قالت: وهو يرى ما لا نرى. رواه البخاري (5848) ومسلم (2447).
ب. عن أنس رضي الله عنه قال: كانت أم سليم في الثقل، وأنجشة غلام النَّبي صلى الله عليه وسلم يسوق بهنَّ، فقال النَّبي صلَّى الله عليه وسلم: يا أنجش رويدك سوقك بالقوارير.
رواه البخاري (5849).
2. إطلاق الحرف على الكلمة الاصطلاحية سواء كان اسماً أو فعلاً أو حرفاً – وهي أقسام الكلام – واسم حروف الهجاء:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقرأني جبريل على حرفٍ، فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف. رواه البخاري (3047) ومسلم (819).
قال الحافظ ابن حجر:
… وهذه الأحاديث تقوِّي أن المراد بالأحرف: اللغات أو القراءات، أي: أُنزل القرآن على سبع لغات أو قراءات، والأحرف: جمع حرف، مثل: فلس وأفلس، فعلى الأول يكون المعنى على سبعة أوجه من اللغات؛ لأن أحد معاني الحرف في اللغة الوجه، كقوله تعالى {ومن الناس من يعبد الله على حرف}، وعلى الثاني يكون المراد من إطلاق الحرف على الكلمة مجازا لكونه بعضها. " فتح الباري " (9/ 24).
3. إطلاق الحرف على الجملة:
أ. عن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته.
رواه مسلم (806).
قال السندي:
(نقيضا) صوتاً كصوت الباب إذا فتح، (أبشر) من الإبشار، (أوتيتهما) على بناء المفعول وكذا لم يؤتهما، (حرفا منهما) أي: مما فيه من الدعاء، (إلا أعطيته) أي: أعطيت مقتضاه، والمرجو أن هذا لا يختص به بل يعمه وأمته صلى الله تعالى عليه وسلم.
" حاشية السندي " (2/ 138، 139).
ب. عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: لا، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلِّي. رواه مسلم (333).
وقال:
… وفي حديث حماد بن زيد زيادة حرف تركنا ذِكره.
قال النووي:
¥