ولعلك تدرك بشئٍ من حسن التأمل، ولطافة الإدراك، أن ثمة تناقضٍ واضحٍ بين الزائف الدخيل والصحيح البيِّن الصحة، فما خرج من مشكاة النبوة فله نور أجلى من ضوء الشمس فى وضح النهار، وعليه رونق الهيبة والجلال، فلقد أوتى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوامع الكلم، واُختصرَ له الكلامُ اختصاراً، إذ هو ((وحى يوحى علمه شديد القوى))، وإنَّه ((للحق من ربك فلا تكونن من الممترين))، وما كان عن كذبٍ وافتعالٍ، وتخرصٍ وافتراءٍ، وتخليطٍ لا يصدر مثله عن مشكاة البيان والفصاحة، ((الذى لا ينطق عن الهوى))، فلا يخفى على النقاد العارفين من أئمة هذا الشأن وجهابذته.
وأول ما يفجئك من ذلك فيما نحن بصدده من الزائف الدخيل على الحجامة:
(أولاً) أن ترى الحكم ونقيضه فى الشئ الواحد، كنحو ((الحجامة يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر دواء لداء السنة)) و ((لا تحتجموا يوم الثلاثاء، فإنَّه يَوْمُ الدَّمِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لا يَرْقَأ))، كيف يلتقيان، فهذا نقيض ذا؟!، وكلاهما باطل لا يجوز اعتقاد صحته ولا العمل به.
(ثانياً) أن يكذِّب الواقعُ والوجودُ الحديثَ ويناقضه، كنحو ((إن في الجمعة لساعة لا يحتجم فيها أحد إلا مات)) و ((من احتجم يوم الأربعاء ويوم السبت فرأى وضحا، فلا يلومن إلا نفسه)). فهذان مما لا يشك فى بطلانهما عاقل، إذ قد توافق هذه الأيامُ أفضلَ أوقات الحجامة المنصوص عليها فى الحديث الصحيح ((مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ))، وذلك كأن يكون يومُ الاثنين سبع عشرة، فيوافق الأربعاء تسع عشرة، بينما يوافق الجمعة أحدى وعشرين.
(إيقاظ وتنبيه) وإن تعجب فعجب قول المناوى فى ((فيض القدير)) (6/ 35): ((وروى الديلمي عن أبي جعفر النيسابوري قال: قلت يوماً هذا الحديث ـ يعنى النهى عن الحجامة يوم الأربعاء ـ غير صحيح، فافتصدت يوم الأربعاء، فأصابني برص، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فشكوت إليه، فقال: إياك والاستهانة بحديثي فذكره. وقد كره أحمد الحجامة يوم السبت والأربعاء لهذا الحديث))؟!!.
ولا ينقضى عجبك ممن أقرَّ بأن أحكام الشريعة لا تتلقى بالرؤى والمنامات، ثم يزعم أن مضمون الحكاية ينطوى على فوائد، ولم يصرِّح بفائدة واحدة منها؛ فضلاً عن مجموعها، فأى فائدة فى العمل بحديث صرَّح أئمة العلم بالحديث بأنه موضوع؟.
فإن نسيت، فلا تنسى قول الإمام الجهبذ أبى حاتم بن حبان: ((لا يحل ذكر مثل هذا الحديث في الكتب إلا على سبيل الاعتبار، لأنه موضوع، ليس هذا من حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن روى مثل هذا الحديث وجب مجانبة ما يروي من الأحاديث، وإن وافق الثقات في بعض الروايات)).
(ثالثاً) أن يكون متن الحديث أشبه بكلام أهل الصنعة من الحجامين والأطباء، كنحو ((نِعْمَ الْعَبْدُ الْحَجَّامُ: يَذْهَبُ بِالدَّمِ، وَيُخِفُّ الصُّلْبَ، وَيَجْلُو الْبَصَرَ)) و ((الحجامة في الرأس شفاء من سبع: الجنون، والجذام، والبرص، والنعاس، ووجع الضرس، والصداع، وظلمة يجدها في عينيه))
فهذه ونظائرها لا يخرج مثلها عن مشكاة النبوة، وإنما هى تجارب أهل الصنعة، ومعارف الطرائقيين، وإعلان ممقوت فى سوق الحجامة طمعاً فى ثمنٍ بخس: دارهم معدودة، ((ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون)). وقارن مثل هذه المناكير والبواطيل إن شئت؛ بما صحَّ عن الصادق المصدوق من قوله ((إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ))، تجد بوناً شاسعاً.
وهناك أمارات أخرى غير المذكورة آنفاً، وضابطها مراجعة أهل المعرفة بنصوص الحديث النبوى، ((ممن تضلع في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بدمه ولحمه، وصار له فيها ملكة واختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه فيما يأمر به، وينهى عنه، ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة)) (1).
ولله در الشيخ العلامة محمد على آدم الأثيوبى، حيث يقول فى ((تذكرته)):
الحمد لله الذى قد يسرا ...... لحفظ دينه حُماةً كُبرا
¥