[أولاً] الذى وقع من أبى طلحة الراسبى فى حديث معقل بن يسار هو مما يقال عنه: ((مخالفة الثقة للأوثق))، وعلى مقتضى القواعد والأصول الحديثية، يجب ترجيح رواية الأوثق، فيقال حينئذٍ: رواية الأوثق محفوظة، ورواية المخالف شاذة، ولذا وددت أن يكون الحكم علي حديث شداد بن سعيد الراسبى أنه ((حديث شاذ))، ولكن لا مشاحة من هذه الحيثية الاصطلاحية.
وإنما قلنا ذلك لئلا يقول قائل: إن الرفع زبادة من الثقة يجب قبولها!. فلا يغيبن عنك قول الجلال السيوطى فى ((الألفية)):
وَذُو الشُّذُوذِ مَا رَوَى المَقْبولُ ... مُخَالِفًا أَرْجَحَ، وَالمَجْعُولُ
أَرْجَحَ مَحْفُوظٌ وَقِيلَ مَا انْفَرَدْ ... لَوْ لَمْ يُخَالِفْ قِيلَ أَوْضَبْطًا فَقَدْ
[ثانياً] لا شكَّ ولا ارتياب؛ أن الجم الغغير أطلقوا القول بتوثيق شداد بن سعيد الراسبى، ومنهم: الإمام أحمد، ويحيى بن معين، وزهير بن حرب، وأبو حاتم، والبزار، والنسائى، وابن عدى، وابن شاهين.
[ثالثاً] وأما الشيخان، فلم يخرِّج له البخارى مطلقاً، بل نقل فى ((التاريخ الكبير)) (4/ 227) تضعيف عبد الصمد بن عبد الوارث البصرى إياه. وإنما أخرج له مسلمٌ حديثاً واحداً فى ((كتاب التوبة)) (2767)؛ عنه عن غَيْلانَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللهُ لَهُمْ، وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى)). وقد يتوجَّه أن يقال: وإنما أخرجه الإمام مسلم كالمتابعة لحديث الباب:
قال (2767): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو أسامة عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبي موسى قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَيَقُولُ: هَذَا فِكَاكُكَ مِنَ النَّارِ)).
[رابعاً] قد سبر جماعة من الأئمة أحاديث شداد، فوقفوا على أوهامٍ له، فوصفوه مع ثقته، بأنه ربما أخطأ ووهم. ولأجل ذلك أورده بعضهم فيمن تكلم فيه من الثقات.
ورأس هؤلاء الذين وصفوه بالوهم والخطأ: أبو جعفر العقيلى. فقد قال فى ((الضعفاء الكبير)) (2/ 185): ((شداد بن سعيد أبو طلحة الراسبي بصري. حدثنا آدم بن موسى سمعت البخاري قال: شداد بن سعيد أبو طلحة الراسبي، ضعفه عبد الصمد، ولكنه صدوق في حفظه بعض الشيء.
ومن حديثه: ما حدثناه إبراهيم بن محمد ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا شداد بن سعيد عن أبى الوازع عن عبد الله بن مغفل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ قَوْمٍ اجتمعوا فى مَجْلِسٍ، وَتَفَرَّقُوا ولم يذكروا الله عز وجلَّ، إِلا كَانَ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً إلى يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). هذا الحديث لا يتابع عليه. وله غير حديث لا يتابع على شيءٍ منها. وهذا الكلام يروى من غير هذه الطريق بإسناد صالحٍ)) اهـ.
قلت: وهذا الحديث الذى اختاره الإمام العلم أبو جعفر العقيلى للدلالة على وقوع شداد فى الوهم أحياناً، دلَّ على نباهته، وزكانته، ودقة ملاحظته فى الوقوف على أدق أخطاء الثقات المتكلم فيهم.
ولتتميم هذه الفائدة نقول: إن الحديث الذى انتقاه مما يدل على خطأ شداد بن سعيد ووهمه فى بعض الأحايين، فمرة يجعله من ((مسند عبد الله بن مغفل المزنى)) كما هاهنا، وأخرى وبنفس الطريق يجعله من ((مسند عبد الله بن عمرو بن العاص))، كما:
أخرجه أحمد (2/ 224) قال: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ثنا شداد أبو طلحة الراسبي سمعت أبا الوازع جابر بن عمرو يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ قَوْمٍ جَلَسُوا مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ فِيهِ إِلا رَأَوْهُ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
ولا يُعترض على أبى جعفر: بأن الحديث صحيح عن جماعة من الصحابة: أبى هريرة، وأبى أمامة، وأبى سعيد الخدرى!، وذلك لأنه لم ينفى صحة الحديث، بل احترز عن ذلك احترازاً دقيقاً حيث قال ((وهذا الكلام يروى من غير هذه الطريق بإسناد صالحٍ))، وإنما قصد إلى بيان خطأ شداد بن سعيد فيه.
[خامساً] لهذا قال الحاكم أبو احمد: ليس بالقوى عندهم. وقال الدارقطنى: بصرى يعتبر به ـ يعنى ينظر فى حديثه للاعتبار ـ. وقال الذهبى: صدوق وغيره أقوى منه. وقال الحافظ العسقلانى: صدوق يخطئ.
والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.
ـ[مصطفى الفاسي]ــــــــ[27 - 06 - 04, 07:56 م]ـ
جزاك الله خيرا شيخنا الفاضل أبا محمد الألفي ونفع بكم.
لقد أصبت وأجدت فما شاء الله لا قوة إلا بالله.
¥