و إغفال هذا الأمر شوش على بعض الأفاضل من أهل العلم المعاصرين مما حدا بهم نحو السير على خطى الحافظ ابن حجر فصحح القصة المنكرة ثم تأولها.
هذا ما جعلنا ننشط لكتابة هذه السطور، مقتفين أثر الذين سبقونا في هذا الباب مع زيادة بيانٍ إن شاء الله تعالى، مدلّلين على أن تلكم المراسيل منكرة سندا و متنا لا حجة فيها على الإطلاق صناعةً و أن الصحيح الذي لا ريب فيه في هذه القصة هو ما جاء في الروايات الموصولة الصحيحة و الله الموفق.
و سيهتم بحثنا في أول أمره على دحض ركيزتين للقصة المنكرة (قصة الغرانيق) و هما:
- الرواية الموصولة من مسند ابن عباس رضي الله عنهما: تضعيفا لأمرها و بيانا لمخالفتها الصحيح الوارد عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه القصة، حيث لا وجود للزيادة المنكرة.
- مرسل سعيد بن جبير: بيانا لنكارتها، لأن أصل الرواية يرجع من الطريق نفسها إلى حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحاح، و قد روى القصة دون الزيادة المنكرة.
ثم نزيد البحث بيانا بإذن الله فنورد حديثين آخرين من مسند أبي هريرة والمطلب بن أبي وداعة رضي الله عنهما، مما يوافق كل الموافقة الروايات الصحيحة لأصل القصة دون ذكر لتلكم الزيادة المنكرة.
و لا ريب أنه لن تصفو بعد هذا، روايةُ مرسلة بله معضلة تخالف تلكم الروايات الصحيحة، فتتهافت المراسيل و المعضلات، حتى لا يحتاج الباحث للنظر في مفرداتها، لكن مع ذلك فقد أتممنا المسير و تكلمنا عليها بما تستحق من نقد.
و اللهَ العليَّ أسأل أن يجعل بحثنا هذا خالصا لوجهه الكريم و لا يجعل لغيره فيه شيئا و أن يجعله ذخرا لنا " يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ":
نقد المرويات:
أ- الروايات الموصولة:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما:
أخرج الطبراني في المعجم الكبير (12/ 53) و الضياء في المختارة (10/ 89) من طريق يوسف بن حماد المعنى ثنا أمية بن خالد ثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير لا أعلمه إلا عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ النجم فلما بلغ " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى" ألقى الشيطان على لسانه " تلك الغرانيق العلى وشفاعتهم ترتجى "، فلما بلغ آخرها سجد وسجد المسلمون والمشركون فأنزل الله عز وجل وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إذا تمنى ألقى الشيطان إلى قوله عذاب يوم عقيم يوم بدر).
قال السيوطي في الدر المنثور: (رجاله ثقات).
قلت: لكنه لا يصح بل هو منكر بهذه الزيادة لا شك فيه (بغض الطرف عن الشك من أحد الرواة في وصله و إرساله)، لأن أمية بن خالد خالف في روايته من هو أثبت و أقوى منه في شعبة، و هو محمد بن جعفر المعروف بغندر، الذي لا يكاد يدانيه أحد في روايته عن شعبة.
فقد أخرج الطبري في تفسيره (17/ 188): (حدثنا ابن بشار قال ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال لما نزلت هذه الآية أفرأيتم اللات والعزى قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون إنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير فسجد المشركون معه فأنزل الله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إلى قوله عذاب يوم عقيم).
و تابع محمد بن جعفر غندر، عبد الصمد بن عبد الوارث: فيما أخرج الطبري في تفسيره (17/ 188): (حدثنا ابن المثنى قال ثني عبد الصمد قال ثنا شعبة قال ثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير قال لما نزلت أفرأيتم اللات والعزى ثم ذكر نحوه).
قلت: هكذا أخرج الطبري هذه الرواية من طريق غندر عن شعبة و هي أصح من رواية الطبراني و الضياء المقدسي من طريق خالد بن أمية عن شعبة، و غندر رواه عن شعبة من رواية سعيد بن جبير مرسلا لا ذكر لابن عباس رضي الله عنهما مطلقا.
و مرسل سعيد ابن جبير هو أقوى ما تمسك به الذين صححوا القصة المنكرة على حد اعتراف أحد أكابرهم و هو الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى كما في الفتح.
و مع ذلك فإننا نقول إن هذه الرواية مرجوحة و الزيادة فيها منكرة جدا، و أصح منها ما جاء من طريق غندر عن شعبة عن أبي إسحاق عن ابن مسعود موصولا دون ذكر لتلكم الزيادة و هو الصحيح و الصواب في هذه الروايات جميعا:
¥