القول الثاني: أن المراد بهاروت وماروت، جبريل وميكائيل -عليهما السلام-، وأن الله تعالى لم ينزل عليهما السحر، خلافاً لما زعمته اليهود، وأن «ما» في قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} للنفي.
روي ذلك عن:
ابن عباس ()، وأبي العالية ()، وعطية العوفي ()، وخالد بن أبي عمران ()، والربيع بن أنس ().
القول الثالث: أن المراد بهما: داود وسليمان عليهما السلام، وأن «ما» أيضاً نافية،
والمعنى: أن الله تعالى لم ينزل السحر على داود، وسليمان.
روي ذلك عن: عبد الرحمن بن أبزى، وكان يقرأ الآية: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ} بكسر اللام. () ()
القول الرابع: أن المراد بهما علجان ()، كانا ببابل ملكين.
روي ذلك عن: الضحاك ()، والحسن البصري ()، وأبي الأسود الدؤلي ().
القول الخامس: أن المراد بهما رجلان ساحران كانا ببابل.
روي ذلك عن ابن عباس ().
الترجيح:
الذي يظهر – والله أعلم – أن هاروت وماروت كانا ملكين من ملائكة السماء أنزلهما الله – عز وجل – إلى الأرض فتنة للناس وامتحاناً، وأنهما كانا يعلمان الناس السحر بأمر الله – عز وجل - لهما.
ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن جنود طالوت بعدم الشرب من النهر في قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (259)} () وكما امتحن عباده بخلق إبليس وهو أصل الشر، ونهى عباده عن متابعته وحذر منه. ()
برهان ذلك:
1 - قوله تعالى في الآية: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}
فالضمير في قوله: {يُعَلِّمَانِ} وقوله: {مِنْهُمَا} عائد على الملكين؛ لأنهما أقرب مذكور، ولأنه ورد بصيغة التثنية فهو مبدل منهما.
وفي قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} دليل واضح على أنهما كانا يعلمان السحر، وإلا فما فائدة تحذيرهما من ذلك؟! ()
وهذا الذي قلنا هو الظاهر المتبادر من السياق، وهو أولى ما حملت عليه الآية. ()
2 - أن المروي –عن الصحابة والتابعين– في قصة هاروت وماروت، حاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، ولا يصح فيها حديث مرفوع ()، والأصل أنه لا يصح حمل الآية على تفسيرات وتفصيلات لأمور مغيبة لا دليل عليها من القرآن والسنة. ()
3 - أن ما نسب إلى الملكين – بأنهما شربا الخمر، وقتلا، نفساً وزنيا– غير جائز في حقهما لما تقرر من عصمة الملائكة - عليهم السلام - من ذلك. ()
فإن قيل: إن تعليم الملكين للسحر كفر، لقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} () وهذا فيه قدح بعصمتهم لأنه لا يجوز عليهم تعليم السحر؟
فجوابه:
أنه ليس في تعليم الملكين للسحر كفر، ولا يأثمان بذلك؛ لأنه كان بإذن الله لهما، وهما مطيعان فيه، وإنما الإثم على من تعلمه من الناس، وقد أخبر سبحانه بأن الملكان كانا ينهيان عن تعلمه أشد النهي، حيث قال: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ().
وقد بينا من قبل، أن لله سبحانه أن يبتلي عباده بما شاء، ومن ذلك ابتلائهم بملكين يعلمانهم السحر، والله تعالى أعلم. ()
() السائب: مأخوذ من ساب يسوب، إذا مشى مسرعاً. انظر: لسان العرب (6/ 450 - 451).
() أخرجه ابن جرير في تفسيره (1/ 501).
() أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 53)، وابن أبي شيبة في المصنف (8/ 108)، وابن جرير في تفسيره
¥