قال أبوعبدالرحمن: وليست هذه بأول انْهزامية للمعاصرين أمام أهل الباطل، وما أكثر المعجزات التي أنكروها، لأن عقول أعداء الإسلام لا تتقبّلها، وما أكثر الأحكام التي حرّفوها أو ردوها، لأنّها لا تتمشى مع ما عليه المجتمع، وما أوتي هذا القائل المسكين إلا من قبل نفسه، إذ قد نبذ المسكين كلام الصحابة، وكلام أهل التفسير، وكلام الفقهاء، وكلام المحدثين، وزعم أنه يعتمد على نفسه وهو جاهل باللغة العربية وبغيرها من الوسائل، ولسنا ندعوه إلى تقليد هؤلاء الأئمة رحمهم الله، ولكن إلى الاستفادة من فهمهم، وإلا فالتقليد في الدين محرم، وقد ذكرت جملة من الأدلة في كتابي ?المخرج من الفتنة? وأنا ذاكر لك كلام بعض المفسرين حول هذه الآية:
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله (ج3 ص310) في الكلام على قول الله عز وجل: {وقال الظّالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا?} قال الله تعالى:? {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا?} أي: جاءوا بما يقذفونك به، ويكذبون به عليك من قولهم: ساحر، مسحور، مجنون، كذّاب، شاعر، وكلها أقوال باطلة كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك. اهـ المراد منه.
والحافظ ابن كثير هو الذي ذكر حديث السحر في تفسير سورة الفلق محتجًا به رحمه الله.
وقال الشوكاني رحمه الله (ج4 ص63): أي ما تتبعون إلا رجلاً مغلوبًا على عقله بالسحر، وقيل: ذا سحر، وهي الرئة، أي بشر له رئة لا ملك. اهـ
والشوكاني هو الذي ذكر حديث السحر في تفسير سورة الفلق، لعلم هذين المفسريْن رحمهما الله بأنه لا تعارض بين الحديث وبين الآيتين، لأن الحديث يحمل على ما وجّهه الإمام القاضي عياض والحافظ ابن حجر وغيرهما من علماء الإسلام، والحديث قد تلقّاه علماء الإسلام بالقبول، فقد اتفق على إخراجه البخاري ومسلم، وما اتفقا عليه فهو أعلى مرتبة في الصحة كما في كتب المصطلح، ثم لم ينتقده الدارقطني ولا أبومسعود الدمشقي، ولا أبوعلي الجياني، ولا أبومحمد بن حزم، ممن تصدى لنقد بعض الأحاديث المعلة التي في الصحيحين، ولسنا نتوقع من علماء الكلام وغيرهم من ذوي الزيغ أن يعظموا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل دأبهم التنفير عنها وتلقيب حملتها بالألقاب المنفّرة، وقد ذكر ابن قتيبة في كتابه "تأويل مختلف الحديث" الشيء الكثير من سخريّتهم بأهل السنة،ولكن أبى الله إلاّ أن ينصر أهل السنة، ويذلّ أهل البدعة والحمد لله.
وهذا الحديث الصحيح يهدم على المبتدعة عقيدتهم أن السحر ليس بحقيقة ولكنه تخيّل، فلذلك هم يحاولون التشكيك فيه وفي غيره من السنن التي تخالف أهواءهم فباءوا بالخزي، وتمت كلمة ربك هي العليا، وصدق الله إذ يقول: {إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون42}.
واحتج بعضهم بقوله: {والله يعصمك من النّاس43}.
وهذا شأن من لا يرجع إلى كتب التفسير، ولا يدري المتقدم من المتأخر فهذه الآية من آخر ما أنزل، كما ذكره الحافظ ابن كثير فقد سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكسرت رباعيته وشج رأسه قبل نزولها، ثم إن المراد: يعصمك من القتل والأسر والتلف، وإلا فهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأبي وأمي بشر يجري عليه ما يجري على البشر، قال الله سبحانه وتعالى: {قل إنّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنّما إلهكم إله واحد44?}.
قال البخاري رحمه الله (ج12 ص339): حدثنا محمد بن كثير عن سفيان عن هشام عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إنّما أنا بشر، وإنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنّما أقطع له قطعةً من النّار)).
وقال البخاري رحمه الله (ج1 ص503): حدثنا عثمان قال حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: قال عبدالله: صلّى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم -قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص- فلمّا سلّم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصّلاة شيء؟ قال: ((وما ذاك)) قالوا: صلّيت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين، ثمّ سلّم فلمّا أقبل علينا بوجهه قال: ((إنّه لو حدث في الصّلاة شيء لنبّأتكم به، ولكن إنّما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكّروني، وإذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الصّواب فليتمّ عليه،
¥