وأظهر جهلها فيما ارتكبت وظنت، ليكون ذلك من دلائل نبوته، لا أن ذلك ضرّه وخلط عليه أمره، ولم يقل كل الرواة إنه اختلط عليه أمره، وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث ولا أصل له. اهـ
طعن محمد عبده ومحمد رشيد رضا:
قال الأخ فهد بن عبدالرحمن بن سليمان الرومي في كتابه "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" ص (346 - 351):
ومن هذا ما ورد في "صحيح البخاري" و"مسلم" عن عائشة رضى الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل من بني زريق، يقال له: لبيد بن الأعصم، حتّى كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخيّل إليه أنّه يفعل الشّيء وما فعله، حتّى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنّه دعا ودعا، ثمّ قال: ((يا عائشة أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرّجل؟ فقال: مطبوب. قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أيّ شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلع نخلة ذكر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان)) فأتاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: ((يا عائشة كأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، أو كأنّ رءوس نخلها رءوس الشّياطين)) قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: ((قد عافاني الله، فكرهت أن أثوّر على النّاس فيه شرًّا)) فأمر بها فدفنت. رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذا الحديث: (ثابت عند أهل العلم بالحديث، لا يختلفون في صحته، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيحه، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير، والسنن، والحديث، والتاريخ، والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله وأيامه من المتكلمين).
وقال الأستاذ عبدالقادر الأرنؤوط: ورواه أيضًا أحمد والنسائي وابن سعد والحاكم وعبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي في "دلائل النبوة" وغيرهم.
وقال ابن القيم في "بدائع الفوائد": وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم متلقّى عندهم بالقبول.
تلكم درجة ذلك الحديث، ولنسجل هنا في مقابلة هذا ما ذهب إليه الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسيره لقوله تعالى: {ومن شرّ النّفّاثات في العقد} حيث يقول:
(وقد رووا هنا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحره لبيد بن الأعصم، وأثّر سحره فيه حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله أو يأتي شيئًا وهو لا يأتيه، وأن الله أنبأه بذلك وأخرجت مواد السحر من بئر وعوفي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما كان نزل به من ذلك ونزلت هذه السورة.
ولا يخفى أن ثأثير السحر في نفسه عليه السلام حتى يصل به الأمر إلى أن يظن أنه يفعل شيئًا وهو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان، ولا من قبيل عروض السهو والنسيان في بعض الأمور العادية، بل هو ماس بالعقل، آخذ بالروح، وهو مما يصدّق قول المشركين فيه: {إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا}.
وليس المسحور عندهم إلا من خولط في عقله، وخيّل له أن شيئًا يقع وهو لا يقع، فيخيّل إليه أنه يوحى إليه ولا يوحى إليه.
وقد كان كثير من المقلّدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة وما يجب لها أن الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صح، فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق به من بدع المبتدعين، لأنه ضرب من إنكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر.
فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح، والحق الصريح في نظر المقلّد بدعة، نعوذ بالله، يحتج على ثبوت السحر، ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعدّه من افتراء المشركين عليه، ويؤول في هذه ولا يؤول في تلك، مع أن الذي قصده المشركون ظاهر لأنّهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه السلام، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد، فإنه قد خالط عقله وإدراكه في زعمهم.
والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته، وعدم الاعتقاد بما ينفيه، وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبّخهم على زعمهم هذا، فإذن هو ليس بمسحور قطعًا.
¥