قالوا: ومن الدليل على ذلك قول الله تعالى: {فإذا حبالهم وعصيّهم يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى66}. إنما هو تخييل، وليس ثم شيء على حقيقته.
وقالوا في قول الله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت67}. هو بمعنى النفي. أي: لم ينْزل ذلك.
وقالوا: الملكين: بكسر اللام. وذكروا عن الحسن أنه كان يقرؤها كذلك، ويقول: علجان من أهل بابل.
قال أبومحمد: ونحن نقول: إنّ الذي يذهب إلى هذا، مخالف للمسلمين واليهود والنصارى، وجميع أهل الكتب ومخالف للأمم كلها، الهند وهي أشدها إيمانًا بالرقى، والروم والعرب في الجاهلية وفي الإسلام، ومخالف للقرآن معاند له بغير تأويل، لأنّ الله جل وعز قال لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {قل أعوذ بربّ الفلق من شرّ ما خلق ومن شرّ غاسق إذا وقب ومن شرّ النّفّاثات في العقد} فأعلمنا أن السواحر ينفثن في عقد يعقدنها كما يتفل الراقي والمعوّذ.
وكانت قريش تسمي السحر: العضه. ولعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم العاضهة والمستعضهة68. يعني بالعاضهة: الساحرة. وبالمستعضهة: التى تسألها أن تسحر لها.
وقال الشاعر:
أعوذ بربي من النافثات في عقد العاضه المعضه
يعني السواحر.
وقد روى ابن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، وهذا طريق مرضي صحيح، أنّه قال: حين سحر: ((جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والأخر عند رجليّ. فقال أحدهما: ما وجع الّرجل؟ قال: مطبوب. فقال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أيّ شيء؟ قال في: مشط ومشاطة وجفّ طلعة ذكر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان)).
وليس هذا مما يجتر الناس به إلى أنفسهم نفعًا ولا يصرفون عنها ضرًا ولا يكسبون به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثناءً ومدحًا، ولا حملة هذا الحديث كذابين ولا متهمين ولا معادين لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وما ينكر أن يكون لبيد بن الأعصم هذا اليهودي سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد قتلت اليهود قبله زكرياء بن آذن في جوف شجرة قطعته قطعًا بالمناشير.
وذكر وهب بن منبه أو غيره أنه عليه السلام لما وصل المنشار إلى أضلاعه أنّ، فأوحى الله تعالى إليه: إمّا أن تكف عن أنينك وإما أن أهلك الأرض ومن عليها. وقتلت بعده ابنه يحيى بقول بغيّ واحتيالها في ذلك69.
ولو لم يقل الله تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم70} لم نعلم نحن أن ذلك شبهه، لأن اليهود أعداؤه، وهم يدّعون ذلك، والنصارى أولياؤه وهم يقرّون لهم به. وقتلت الأنبياء وطبختهم وعذّبتهم أنواع العذاب، ولو شاء الله جل وعز لعصمهم منهم.
وقد سمّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في شاة مشوية سمته يهودية، فلم يزل السم يعاوده حتى مات.
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((مازالتْ أكلة خيبر تعاودني، فهذا أوان انقطاع أبْهري71)) فجعل الله تعالى لليهودية عليه السبيل حتى قتلته.
ومن قبل ذلك ما جعل الله لهم السبيل على النبيّين. والسحر أيسر خطبًا من القتل والطبخ والتعذيب.
فإن كانوا إنما أنكروا ذلك لأن الله تعالى لا يجعل للشيطان على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سبيلاً ولا على الأنبياء، فقد قرءوا في كتاب الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلاّ إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته72}. يريد: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، يعزيه عما ألقاه الشيطان على لسانه حين قرأ في الصلاة: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتجى73.
غير أنه لا يقدر أن يزيد فيه أو ينقص منه.
أما تسمعه يقول: {فينسخ الله ما يلقي الشّيطان ثمّ يحكم الله ءاياته} أي: يبطل ما ألقاه الشيطان.
ثم قال: {ليجعل ما يلقي الشّيطان فتنةً للّذين في قلوبهم مرض}.
وكذلك قوله في القرآن: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه74} أي: لا يقدر الشيطان أن يزيد فيه أولاً ولا آخرًا.
قال أبومحمد: حدثني أبوالخطاب قال: نا بشر بن المفضل عن يونس عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ جبريل عليه السّلام أتاني فقال: إنّ عفْريتًا من الجنّ يكيدك فإذا أويت إلى فراشك فقل: {الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم} حتى تختم آية الكرسي75.
¥