وقد حكى الله تعالى عن أيوب صلى الله عليه وسلم فقال: {أنّي مسّني الشّيطان بنصب وعذاب76}.
قال أبومحمد: وأما قولهم في السحر الذي رآه موسى صلى الله عليه وسلم: إنه تخييل إليه، وليس على حقيقته، فما ننكر هذا ولا ندفعه، وإنا لنعلم أن الخلائق كلها لو اجتمعوا على خلق بعوضة لما استطاعوا، غير أنا لا ندري أهو بالزئبق الذي ادعوا أنّهم جعلوه فى سلوخ الحيات حتى جرت أم بغيره. ولا يعلم حقيقة هذا إلا من كان ساحرًا، أو من سمع فيه شيئًا من السحرة.
وأما قولهم في قول الله تبارك وتعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان} ثم قال: {يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين}.
إن تأويله: ولم ينْزل على الملكين ببابل، فليس هذا بمنكر من تأويلاتهم المستحيلة المنكوسة.
فإذا كان لم ينْزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، صار الكلام فضلاً لا معنى له، وإنما يجوز بأن يدّعي مدّع أن السحر أنزل على الملكين ويكون فيما تقدم ذكر ذلك أو دليل عليه فيقول الله تعالى: اتبعوا ذلك، ولم ينْزل على الملكين كما ذكروا.
ومثال هذا أن يقول مبتدئًا علّمت هذا الرجل القرآن، وما أنزل على موسى عليه السلام، فلا يتوّهم سامع هذا أنك أردت أن القرآن لم ينْزل على موسى عليه السلام لأنه لم يتقدمه قول أحد: إنه أنزل على موسى عليه السلام، وانما يتوّهم السامع أنك علّمته القرآن والتوراة، وتأويل هذا عندنا مبيّن بمعرفة الخبر المروي فيه، وجملته -على ما ذكر ابن عباس- أن سليمان صلى الله عليه وسلم لما عوقب وخلفه الشيطان في ملكه، دفنت الشياطين في خزانته وموضع مصلاه سحرًا وأخذًا ونيرنجات، فلما مات سليمان صلى الله عليه وسلم، جاءت الشياطين إلى الناس فقالوا: ألا ندلكم على الأمر الذي سخّرت به لسليمان الريح والجن، ودانت له به الإنس؟ قالوا: بلى، فأتوا مصلاه وموضع كرسيه فاستخرجوا ذلك منه.
فقال العلماء من بني إسرائيل: ما هذا من دين الله، وما كان سليمان ساحرًا، وقال سفلة الناس: سليمان كان أعلم منا فسنعمل بهذا كما عمل، فقال الله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان}. أي: اتبعت اليهود ما ترويه الشياطين. والتلاوة والرواية شيء واحد.
ثم قال: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين} وهما ملكان أهبطا إلى الأرض حين عمل بنو آدم بالمعاصي ليقضيا بين الناس، وألقي في قلوبهما شهوة النساء وأمرا أن لا يزنيا، ولا يقتلا، ولا يشربا خمرًا، فجاءتْهما الزهرة تخاصم إليهما فأعجبتهما، فأراداها، فأبت عليهما حتى يعلماها الاسم الذى يصعدان به إلى السماء، فعلماها، ثم أراداها فأبت، حتى يشربا الخمر، فشرباها وقضيا حاجتهما، ثم خرجا فرأيا رجلاً فظنا أنه قد ظهر عليهما فقتلاه، وتكلّمت الزهرة بذلك الاسم فصعدت فخنست، وجعلها الله شهابًا، وغضب الله تعالى على الملكين فسماهما: هاروت وماروت، وخيّرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الاخرة، فاختارا عذاب الدنيا77.
فهما يعلمان الناس ما يفرّقون به بين المرء وزوجه، والذي أنزل الله عز وجل على الملكين فيما يرى أهل النظر -والله أعلم- هو الاسم الأعظم الذي صعدت به الزهرة.
وكانا -قبلها وقبل السخط عليهما- يصعدان إلى السماء، فعلّمته الشياطين فهي تعلمه أولياءها وتعلمهم السحر.
وقد يقال: إنّ الساحر يتكلم بكلام فيطير بين السماء والأرض ويطفوا على الماء.
قال أبومحمد: حدثني زيد بن أخزم الطائي قال نا عبدالصمد قال نا همام عن يحيى بن كثير78: أن عامل عمان كتب إلى عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: إنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء فطفت، فكتب إليه عمر بن عبدالعزيز: لسنا من الماء في شيء، إن قامت البينة وإلا فخلّ سبيلها.
وحدثني زيد بن أخزم الطائي قال: نا عبدالصمد قال: نا زيد بن أبي ليلى79 قال: نا عميرة بن شكير80 قال: كنا مع سنان بن سلمة بالبحرين فأتي بساحرة فأمر بها فألقيت في الماء فطفت، فأمر بصلبها، فنحتنا جذعًا، فجاء زوجها كأنه سفود محترق، فقال: مرها فلتطلق عني. فقال لها: أطلقي عنه. فقالت: نعم ائتوني بباب وغزل. فقعدت على الباب، وجعلت ترقى الغزل وتعقد، فارتفع الباب، فأخذا يمينًا وشمالاً فلم يقدر عليهما.
¥