ومن جهة أخرى فإنه لا تلازم بين الاشتهار وبين تلقي الأمة له بالقبول كما قال ابن أمير الحاج في " التقرير والتحبير " (2/ 296):
" الظاهر أنه لا تلازم كلياً بين الاشتهار، وبين تلقي الأمة له بالقبول، إذ قد يوجد الاشتهار للشيء بلا تلقي جميع الأمة له بالقبول، وقد تتلقى الأمة الشيء بالقول بلا روايته على سبيل الاشتهار " اهـ.
وقال ابن حزم في " الإحكام " (1/ 158 - 162):
" وقد قال بعض المتحكمين في الدين بقلة الورع ممن يدعي أنه من أهل القول بقبول السنن من طرق الآحاد إن الخبر إذا كان مما يعظم به البلوى لم يقبل فيه خبر الواحد ومثل ذلك بعضهم بالآثار المروية في الأذان والإقامة وقال إن الأذان والإقامة كانا بالمدينة بحضرة الأئمة من الصحابة رضي الله عنهم خمس مرات كل يوم فهذا مما تعظم به البلوى فمحال أن يعرف حكمه الواحد ويجهله الجماعة ومثل ذلك بعضهم أيضا بخبر الوضوء من مس الذكر.
قال أبو محمد: وهذا كلام فاسد متناقض أول ذلك أن الدين كله تعظم به البلوى ويلزم للناس معرفته وليس هذا ما وقع في الدهر مرة من أمر الطهارة والحج أوجب في أنه فرض أو حرام مما يقع في كل يوم ولا يفرق بين ذلك إلا جاهل أو من لا يبالي بما تكلم ويقال له في الأذان الذي ذكر لا فرق بين أذان المؤذن بالمدينة بحضرة عمر وعثمان رضي الله عنهما خمس مرات كل يوم وبين أذان المؤذن بالكوفة بحضرة ابن مسعود وعلي خمس مرات كل يوم وليست نسبة الرضا بتبديل الأذان إلى علي وابن مسعود بأخف من نسبة ذلك إلى عمر وعثمان فبطل تمويه هذا الجاهل وبان تخليطه.
وكذلك الوضوء من مس الذكر ليست البلوى به بأعظم من البلوى بإيجاب الوضوء من الرعاف والقلس وقد أوجبه الحنفيون بخبر ساقط ولم يعرفه المالكيون ولا الشافعيون ولا البلوى أيضا بذلك أعظم من البلوى بإيجاب الوضوء من المسة والقبلة للذة ومن إيجاب التدلك في الغسل وقد أوجبها المالكيون ولا يعرف ذلك الحنفيون ومثل هذا كثير جداً.
فإن قالوا: أوجبنا ذلك بالقرآن.
قيل لهم: قد عرف القرآن غيركم كما عرفتموه فما رأوا فيه ما ذكرتم مع عظيم البلوى به وقد بينا في كتابنا هذا أن مغيب السنة عمن غاب عنه من صاحب أو غيره ليس حجة على من بلغته وإنما الحجة في السنة.
وقد غاب نسخ التطبق في الركوع عن ابن مسعود وهو مما تعظم به البلوى به ويتكرر على المسلم أكثر من بضع عشرة مرة في كل يوم وليلة وخفي على عمر رضي الله عنه أمر جزية المجوس والأمر في قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لها من مجوس هجر عاماً بعد عام وأبي بكر بعده عاما بعد عام أشهر من الشمس ولم تكن فضلة قليلة بل قد ثبت أنه لم يقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أكثر منه على قلة المال هناك حينئذ وخفي على عمر وابن عمر أيضا الوضوء من المذي وهو مما تعظم البلوى به وهذا كثير جدا ويكفي من هذا أن قول هذا القائل دعوى مجردة بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل مطرح قال عز وجل (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:111).
ولا يجوز أن يعارض ما قد صح البرهان به من وجوب قبول السنن من طريق الآحاد بدعوى ساقطة فاسدة وبالله تعالى التوفيق.
وقال أيضاً بعض الحنفيين:
ما كان من الأخبار زائدا على ما في القرآن أو ناسخاً له أو مخالفاً له لم يجز أخذه بخبر الواحد إلا حتى يأتي به التواتر.
قال أبو محمد:
وهذا تقسيم باطل ودعوى كاذبة وحكم بلا برهان وما كان هكذا فهو ضلال لا يحل القول به ونقول لهم أيجوز الأخذ بشيء من أخبار الآحاد في شيء من الشريعة أم لا؟
فإن قالوا: لا.
كلمناهم بما قد فرغنا منه آنفاً، وكانوا خارجين عن مذهبهم أيضاً.
وإن قالوا: نعم وهو قولهم.
قلنا لهم: من أين جوزتم أن يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم به وأن يشرع به في دين الله عز وجل شريعة تضاف إليه في الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك في الموضع الذي أجزتموه فيه؛ ثم منعتم من قوله حيث هو بزعمك زائد على ما في القرآن أو ناسخ له فلا سبيل إلى فرق أصلاً.
¥