فَإِنْ قِيلَ: بِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ ; لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِرَارًا وَكَانَتْ الطَّهَارَةُ تَنْتَقِضُ بِهِ لَا يَحِلُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَشِيعَ حُكْمَهُ وَيُنَاجِيَ بِهِ الْآحَادَ ; إذْ يُؤَدِّي إلَى إخْفَاءِ الشَّرْعِ وَإِلَى أَنْ تَبْطُلَ صَلَاةُ الْعِبَادِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ , فَتَجِبُ الْإِشَاعَةُ فِي مِثْلِهِ ثُمَّ تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ , وَكَذَلِكَ مَسُّ الذَّكَرِ مِمَّا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ فَكَيْفَ يَخْفَى حُكْمُهُ؟
قُلْنَا: هَذَا يَبْطُلُ أَوَّلًا بِالْوَتْرِ وَحُكْمِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالْقَهْقَهَةِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ وَتَثْنِيَتِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَقَدْ أَثْبَتُوهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
فَإِنْ زَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عُمُومُ الْبَلْوَى فِيهَا كَعُمُومِهَا فِي الْأَحْدَاثِ , فَنَقُولُ: فَلَيْسَ عُمُومُ الْبَلْوَى فِي اللَّمْسِ وَالْمَسِّ كَعُمُومِهَا فِي خُرُوجِ الْأَحْدَاثِ , فَقَدْ يَمْضِي عَلَى الْإِنْسَانِ مُدَّةٌ لَا يَلْمِسُ وَلَا يَمَسُّ الذَّكَرَ إلَّا فِي حَالَةِ الْحَدَثِ كَمَا لَا يَفْتَصِدُ وَلَا يَحْتَجِمُ إلَّا أَحْيَانًا فَلَا فَرْقَ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي وَهُوَ التَّحْقِيقُ: أَنَّ الْفَصْدَ وَالْحِجَامَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَكِنَّهُ يَكْثُرُ , فَكَيْفَ أُخْفِيَ حُكْمُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَى بُطْلَانِ صَلَاةِ خَلْقٍ كَثِيرٍ؟
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْأَكْثَرَ فَكَيْفَ وَكُلُّ ذَلِكَ إلَى الْآحَادِ؟ وَلَا سَبَبَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم إشَاعَةَ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ , بَلْ كَلَّفَهُ إشَاعَةَ الْبَعْضِ وَجَوَّزَ لَهُ رَدَّ الْخَلْقِ إلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْبَعْضِ , كَمَا جَوَّزَ لَهُ رَدَّهُمْ إلَى الْقِيَاسِ فِي قَاعِدَةِ الرِّبَا , وَكَانَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: لَا تَبِيعُوا الْمَطْعُومَ بِالْمَطْعُومِ أَوْ الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ , حَتَّى يُسْتَغْنَى عَنْ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ , فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مَنْ جُمْلَةِ مَا تَقْتَضِي مَصْلَحَةُ الْخَلْقِ أَنْ يَرُدُّوا فِيهِ إلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ , وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ صِدْقُ الرَّاوِي مُمْكِنًا فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ , وَلَيْسَ عِلَّةُ الْإِشَاعَةِ عُمُومَ الْحَاجَةِ أَوْ نُدُورَهَا , بَلْ عِلَّتُهُ التَّعَبُّدُ وَالتَّكْلِيفُ مِنْ اللَّهِ , وَإِلَّا فَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَثِيرٌ كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأَكْثَرُ فِي كَوْنِهِ شَرْعًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْفَى. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الضَّابِطُ لِمَا تَعَبَّدَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِيهِ بِالْإِشَاعَةِ؟
قُلْنَا: إنْ طَلَبْتُمْ ضَابِطًا لِجَوَازِهِ عَقْلًا فَلَا ضَابِطَ بَلْ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ فِي تَكْلِيفِ رَسُولِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ , وَإِنْ أَرَدْتُمْ وُقُوعَهُ فَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَإِذَا اسْتَقْرَيْنَا السَّمْعِيَّاتِ وَجَدْنَاهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ , وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ عُنِيَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي إشَاعَتِهِ.
الثَّانِي: مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسُ , كَكَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَقَدْ أَشَاعَهُ إشَاعَةً اشْتَرَكَ فِي مَعْرِفَتِهِ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ.
الثَّالِثُ: أُصُولُ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً مِثْلُ أَصْلِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا قَدْ تَوَاتَرَ , بَلْ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ , فَإِنَّ هَذَا تَوَاتَرَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ إمَّا بِالتَّوَاتُرِ وَإِمَّا بِنَقْلِ الْآحَادِ فِي مَشْهَدِ الْجَمَاعَاتِ مَعَ سُكُوتِهِمْ , وَالْحُجَّةُ تَقُومُ بِهِ , وَلَكِنَّ الْعَوَامَّ لَمْ يُشَارِكُوا الْعُلَمَاءَ فِي الْعِلْمِ , بَلْ فَرْضُ الْعَوَّام فِيهِ الْقَبُولُ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
الرَّابِعُ: تَفَاصِيلُ هَذِهِ الْأُصُولِ , فَمَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَالْعِبَادَاتِ وَيَنْقُضُ الطَّهَارَةَ مِنْ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَالْقَيْءِ وَتَكْرَارِ مَسْحِ الرَّأْسِ , فَهَذَا الْجِنْسُ مِنْهُ مَا شَاعَ وَمِنْهُ مَا نَقَلَهُ الْآحَادُ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى , فَمَا نَقَلَهُ الْآحَادُ فَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ وَلَا مَانِعَ , فَإِنَّ مَا أَشَاعَهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ لَا يُتَعَبَّدَ فِيهِ بِالْإِشَاعَةِ , وَمَا وَكَّلَهُ إلَى الْآحَادِ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُتَعَبَّدَ فِيهِ بِالْإِشَاعَةِ , لَكِنَّ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ وَقَعَ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ يُخَالِفُ أَمَرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ " اهـ.
الوجه السادس:
....... يُتبع ...........
¥