وقال أبو بكر المروذي: " كان أبو عبد الله (يعني أحمد) يحدث عن المرجئ إذا لم يكن داعية أو مخاصماً " (885).
وقال جعفر بن محمد بن أبان الحراني: قلت لأحمد بن حنبل: فنكتب عن المرجئ والقدري وغيرهما من أهل الأهواء؟ قال: " نعم، إذا لم يكن يدعو إليه ويكثر الكلام فيه، فأما إذا كان داعياً فلا " (886).
وسئل أحمد بن حنبل: عمن يكتب العلم؟ فقال: " عن الناس كلهم، إلا عن ثلاثة: صاحب هوى يدعو الناس إليه، أو كذاب، فإنه لا يكتب عنه قليل ولا كثير، أو عن رجل يغلط فيرد عليه فلا يقبل " (887).
قلت: عبارات أحمد في ذلك جاءت بالتشديد في أمر الداعية، في الكتابة عنه، وليس في تخريج حديثه مطلقاً، والفرق بين الصورتين: أنه عرف من منهج أحمد التشديد على المخالفين في الأصول، والكتابة عن أحدهم تحسين لأمره عند من لا يعرفه، وتغريد للناس به، فكان يشدد في أمر هؤلاء تنفيراً للناس عنهم، وهذا إنما يؤثر في حق الأحياء يقصد الراوي أن يحمل عن أحدهم الحديث، أما الأموات الذين لم يعرف الناس من أمرهم إلا ما خلفوه من علم أو رواية، فهؤلاء خرج أحمد من حديثهم الكثير في كتبه، من شتى طوائف أهل القبلة، وفيهم من كان غالياً، ولا يبعد أن يكون داعية.
ولذا قال إبراهيم الحربي: قيل لأحمد بن حنبل: في حديثك أسماء قوم من القدرية، فقال: " هو ذا نحن نحدث عن القدرية " (888).
وقال عباس الدوري: سمعت يحيى (يعني ابن معين) يقول: " ما كتبت عن عباد بن صهيب "، قلت: هكذا تقول في كل داعية: لا يكتب حديثه إن كان قدرياً أو رافضياً أو غير ذلك من أهل الأهواء من هو داعية؟ قال: " لا يكتب عنهم، إلا أن يكونوا ممن يظن به ذلك ولا يدعوا إليه، كهشام الدستوائي وغيره ممن يرى القدر ولا يدعو إليه " (889).
وقال أحمد بن محمد الحضرمي: سألت يحيى بن معين عن عمرو بن عبيد؟ فقال: " لا تكتب حديثه "، فقلت له: كان يكذب؟ فقال: " كان داعية إلى دينه "، فقلت له: فلم وثقت قتادة وسعيد بن أبي عروبة وسلام بن مسكين؟ فقال: " كانوا يصدقون في حديثهم، ولم يكونوا يدعون إلى بدعة " (890).
وقال ابن حبان: " والدعاة يجب مجانبة رواياتهم على الأحوال، فمن انتحل نحلة بدعة ولم يدع إليها، وكان متقناً، كان جائز الشهادة، محتجاً بروايته " (891).
وقال: " الاحتياط ترك رواية الأئمة الداعين منهم، والاحتجاج بالرواة الثقات منهم " (892).
ويبين الحافظ الخطيب السبب في هذا المذهب، فيقول: " إنما منعوا أن يكتب عن الدعاة؛ خوفاً أن تحملهم الدعوة إلى البدعة والترغيب فيه على وضع ما يحسنها " (893).
قلت: وهذا تعليل معتبر في حل راو لم يعرف بالصدق، أما من ثبت صدقه وعرفت أمانته، وكان يذهب إلى شيء من تلك المذاهب بتأويل، وكان ينتصر إلى مذهبه ذلك، فهذا مراد كذلك في قول هؤلاء الأئمة، لكن لا يتنزل عليه تعليل الخطيب.
والذي يتحرر من إمعان النظر في هذا المذهب أنه مذهب نظري اليوم في شأن رواة الحديث، وذلك أن أمر الدعوة إلى البدعة مما لا يمكن حصره وضبطه، والكلام في رواة الحديث فد فرغ منه، وصارت العمدة في معرفة أحوال الرواة على ما بلغنا من أخبارهم، والمتأمل يجد في تلك الأخبار وصف عدد غير قليل من الرواة بالبدعة، لكن يندر فيهم من يمكن القول: إنه كان داعية، نعم؛ وصف طائفة بالغلو، إلا أنه لا يعني بالضرورة كون الموصوف بذلك داعية إليها.
المذهب الرابع: عدم اعتبار البدعة جرحاً مسقطاً لحديث الراوي، لما تقوم عليه من التأويل، وإنما العبرة بالحفظ والإتقان والصدق، والسلامة من الفسق والكذب.
وعلى هذا في التحقيق يتنزل مذهب من ذهب من كبار الأئمة إلى أن البدعة لا تمنع قبول حديثهم، إلا من كان يستحل الكذب.
وهذا هو منقول من مذهب أبي حنيفة وصاحبه أبي يوسف وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والشافعي (894).
قال سفيان بن عيينة: " حدثنا عبد الملك بن أعين، وكان شيعياً، وكان عندنا رافضياً صاحب رأي " (895).
¥