ثقة صدوقا ". و إن مما يؤكد ما تقدم , و أنه ثقة يحتج به أمران اثنان: أحدهما
: أن الحافظ الخليلي نفسه احتج لإثبات أن حديث " قبض العلم " المروي في "
الصحيحين " , و المخرج عندي في " الروض " (579) من طرق عن هشام بن عروة عن
أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا , احتج الحافظ على أن له أصلا محفوظا صحيحا من
رواية هشام أيضا عن أبيه عن عائشة , ساقه من طريق المروزي هذا عن ابن عيينة عن
هشام به. ثم قال الحافظ عقبه: " كلاهما محفوظان ". ذكره للحاكم أبي عبد الله
بطلب منه , قال الخليلي: " فاستجاد الحاكم و استحسن ". و في ذلك دليل قوي على
أن المروزي عندهما ثقة يحتج به , و لولا ذلك لنسباه إلى الوهم لأنه خالف الطرق
بروايته هو عن ابن عيينة بسنده عن عروة عن عائشة رضي الله عنها. و إن مما يؤكد
ذلك أنه قد جاء من طرق أخرى عن عروة عنها عند مسلم (8/ 60 - 61) و الطحاوي
في " المشكل " (1/ 127) و البزار (1/ 123 / 233) و الخطيب في " التاريخ "
(5/ 313). هذا هو الأمر الأول الدال على أن المروزي هذا ثقة حجة. و أما
الأمر الآخر: فهو أنني كنت ذكرت في خاتمة هذا التخريج أن الذهبي رحمه الله صحح
إسناد الحديث من طريق المروزي هذا , و أخونا الذي أنا في صدد الرد عليه على علم
بذلك , لأنه عزا الحديث إلى الذهبي في " السير " في نفس المجلد و الصفحة التي
سبقت الإشارة إليها. فليت شعري ما الذي يحمل هؤلاء الشباب الناشئين و الباحثين
على عدم الاعتداد بأحكام الحفاظ المخالفة لهم , طبعا لا أريد من هذا أن يقلدوهم
, و إنما أن يقدروا جهودهم و علمهم و تمكنهم فيه , بحيث أنهم على الأقل لا
يتسرعون في إصدار الأحكام المخالفة لهم. و هذه ذكرى و * (الذكرى تنفع المؤمنين
) *. و هنا سؤال يطرح نفسه - كما يقولون اليوم -: لماذا كتم الأخ الفاضل تصحيح
الذهبي المذكور ?! و هو يعلم من هو الذهبي حفظا و معرفة بالرجال , و الجرح و
التعديل ? الوجه الآخر: قوله المتقدم: " و ما ذكر أن البخاري أخرج له فقد رده
الحافظ .. " إلخ , ففيه نظر لأن الحافظ لم يتعرض في " هدي الساري " لذكر قول
ابن عدي إطلاقا , فلا يجوز القول بأنه رده. و إنما قال الأخ ما قال لظنه
التعارض بينهما و لا تعارض , لأن المثبت غير المنفي , فالذي أثبته ابن عدي يصدق
على شيوخ البخاري خارج " الصحيح " , و ما نفاه الحافظ إنما هو فيما يتعلق بـ "
الصحيح " , فلا تعارض و لا رد. هذا آخر ما يتعلق بالنقطة الأولى , و خلاصتها
أن توثيق ابن حبان راوي حديث الترجمة توثيق صحيح لا وجه لرده , و أن حديثه صحيح
كما قال الحافظ النقاد: الإمام الذهبي. النقطة الثانية: أن الأخ لم يكن
دقيقا في نقده للحديث و بعض رواته , فقد عرفت من النقطة الأولى أنه لم يذكر
تصحيح الذهبي للحديث , و أقول الآن: و كذلك لم يذكر قول الحافظ في راويه (
المروزي) " صدوق "! و على خلاف ذلك تبنى قول الحافظ هذا في متابعه محمد بن
الفرج و هو القرشي الهاشمي مولاهم , و هو أقل ما قيل فيه , و إلا فقد وثقه
الحضرمي و ابن أبي حاتم , و السراج و ابن حبان , و احتج به مسلم , و لذلك قال
الذهبي في " الكاشف ": " ثقة ". و من الواضح جدا أن تجاهله لأقوال هؤلاء
الأئمة , و تصحيح الذهبي لحديث المروزي , و عدم معرفته بكونه حجة عند الحافظ
الخليلي و غيره , إنما هو توطئة منه لتوهين طريق المروزي بالجهالة , و طريق
محمد بن الفرج بأنها حسنة فقط , و لم يقف عند هذا فقط , بل شكك في حسنه أيضا
فقال: " لكن بقي النظر في السند من الإسماعيلي إليه , فإن كان منهم من تكلم
فيه , و إلا فهو صدوق , و سنده حسن في الظاهر "! فهذا منه صريح بأنه لم يقف
على إسناد الإسماعيلي و إلا لنظر فيه , و لما تصور خلاف الواقع فيه , فظن أن
بينه و بين محمد بن فرج جمع من الرواة , و الحقيقة أنه ليس بينهما إلا شيخه
العباس بن أحمد الوشاء , و هو من الشيوخ الصالحين الدارسين للقرآن , روى عنه
ثلاثة من الثقات الحفاظ الإسماعيلي هذا , و الخطبي , و أبو علي الصواف , كما في
" تاريخ بغداد " (12/ 151) . فالسند إذن صحيح , لأن رجاله كلهم ثقات كما
هو مصرح في كتب القوم إلا الوشاء , و قد عرفت صلاحه و رواية الحفاظ عنه , ثم هو
متابع فلا يتعلق به إلا من يجهل هذه الصناعة. النقطة الثالثة: و هي أغربها و
أبعدها عن العلم , و ذلك لأنه رجح رواية سعيد ابن منصور مع شكه و تردده بين "
المساجد الثلاثة " و " مسجد جماعة " , بحجة أن سعيدا أقوى من الثلاثة الذين
جزموا بـ " المساجد الثلاثة " و لم يشكوا , يعني المروزي و ابن الفرج و هشام بن
عمار . و لم ينتبه أخونا المشار إليه أن الشك ليس علما , و أنه يجب أن يؤخذ
من كلام الشاك ما وافق الثقات , لا أن يرد جزم الثقات بشك الأوثق , فيقال:
وافق سعيد الثقات في طرف من طرفي الشك: " المساجد الثلاثة " فيؤخذ بموافقته ,
و يعرض عن شكه و هو قوله: " أو مسجد جماعة " , لأنه ليس علما , و لأنه خالف
الثقات الذين جزموا و لم يشكوا. و هذا أمر واضح جدا , لا يشك فيه من أوتي علما
و فقها. أرأيت أيها الأخ لو أن جماعة اتفقوا على إثبات حق على أحد من الناس
لآخر , ثم اتفقوا على أن هذا الحق عدده مثلا خمسة , إلا أن أحدهم شك فقال:
خمسة أو ستة. أفيقول عاقل بأن الحق غير ثابت بحجة أن الشاك أوثق من الذين لم
يشكوا ?! لذلك فإني - ختاما - أقول لهذا الأخ المحب و لأمثاله من الأحبة: أرجو
مخلصا أن لا تشغلوا أنفسكم بالكتابة في علم لم تنضجوا فيه بعد , و لا تشغلونا
بالرد عليكم حين تكتبون ردا علي , و لو بطريق السؤال و الاستفادة , فإن ما أنا
فيه من الاشتغال بالمشروع العظيم " تقريب السنة بين يدي الأمة " الذي يشغلني
عنه في كثير من الأحيان ردود تنشر في رسائل و كتب و مجلات من بعض أعداء السنة
من المتمذهبة و الأشاعرة و المتصوفة و غيرهم , ففي هذا الانشغال ما يغنيني عن
الرد على المحبين الناشئين , فضلا عن غيرهم. و الله المستعان , و عليه التكلان