ثانياً: هذا الطريق أعلى سنداً من غيره فبين البخاري والنبي صلى الله عليه وسلم خمسة رجال، بينما الطريق الذي أورده في كتاب الجهاد فبينه وبين النبي صلى الله عليه و سلم ستة رجال، فطريق الطفاوي جمع بين العلو وتسلسل الرواة باعتبار بلدهم وهذا مما يُعنى به المحدثون، ولا يكون هذا كله إلا إذا تأكد لديهم صحة أصل الحديث، والله تعالى أعلم.
وأما الحديث الثالث فهو حديث ابن عمر " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل .. ".
قال البخاري: " حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو المنذر الطفاوي عن سليمان أو عمش قال: حدثني مجاهد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيميني فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " ().
قال الحافظ: " فهذا الحديث قد تفرد به الطفاوي وهو من غرائب الصحيح وكأن البخاري لم يشدد فيه لكونه من أحاديث الترغيب والترهيب " ().
" وقد أخرجه أحمد والترمذي من رواية سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وأخرجه ابن عدي في الكامل من طريق الحماد بن شعيب عن أبي يحي القتات عن مجاهد، وليث وأبو يحي ضعيفان والعمدة على طريق الأعمش وللحديث طريق آخر أخرجه النسائي من رواية عبدة بن أبي لبابة عن ابن عمر مرفوعاً وهذا مما يقوي الحديث المذكور " ().
2 – أحاديث فضيل بن سليمان النميري: أبو سليمان البصري، تكلم في حفظه كثير من الأئمة (). (ص 154)
قال الساجي: كان صدوقاً، وعنده مناكير.
وقال عباس الدوري عن ابن معين: ليس بثقة. وقال أبو زرعة: لين الحديث.
وقال أبو حاتم: يكتب حديثه وليس بالقوي. وقال النسائي: ليس بالقوى.
وقد لخص الحافظ حاله فقال: " صدوق له خطأ كثير " ().
فواضح أن مثل هذا الراوي ليس من شرط الصحيح، ومع ذلك نجد الإمام البخاري قد انتقى من حديثه ما يتابعه عليه غيره، منها:
1 – حديثه عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر في إجلاء اليهود.
ساق البخاري سنده فقط في كتاب الحرث والمزارعة وذكر عقبة متابعة ابن جريج من طريق عبد الرزاق معلقاً () وقد وصل مسلم طريق ابن جريج، وأخرجها أحمد عن عبد الرزاق عنه بتمامها ()، وقد ساق البخاري لفظ فضيل بن سليمان في كتاب الخمس ().
2 – وحديثه بهذا الإسناد أيضاً في قصة زيد بن عمرو بن نفيل () تابعه عليه عبد العزيز بن المختار عند أبي يعلي ().
3 – وحديثه عن مسلم بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جابر عمن (ص 155) سمع النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه عليه عند البخاري سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر وسمي المبهم أبا بردة بن نيار ().
4 – وحديثه عن منصور بن عبد الرحمن عن صفية عن عائشة أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من الحيض … " () تابعه عليه ابن عيينة ووهيب وغيرهما ().
5 – وحديثه عن أبي حازم عن سهل بن سعد في حفر الخندق قال البخاري – رحمه الله -:
" حدثني أحمد بن المقدام العجلي حدثنا الفضيل بن سليمان حدثنا أبو حازم حدثنا سهل بن سعد الساعدي قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق وهو يحفر ونحن ننقل التراب، وبصر بنا، فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة " ().
وقد تابعه على حديثه هذا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل ().
6 – وحديثه أيضاً بهذا الإسناد " ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً … " (). (ص 156)
تابعه عليه عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه أيضاً ().
فهذه أمثلة ونماذج لم أقصد منها الاستيعاب، وإنما قصدت توضيح منهج البخاري في تقوية أحاديث الضعفاء، وأنه لا يعتمد على خصوص الأسانيد وإنما يحكم للحديث بمجموع طرقه.
والسؤال الذي يمكن أن يُطرح: لماذا يخرج البخاري لمثل هؤلاء الضعفاء مع أن الحديث قد يكون مروياً بإسناد آخر أقوى منه؟ ونفس الإشكال يُطرح أيضاً على الإمام مسلم.
وقد أجاب الإمام ابن الصلاح عن هذا فقال ما ملخصه:
" عاب عائبون مسلماً بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء أو المتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح.
والجواب: أن ذلك لأحد أسباب لا معاب عليه معها.
أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده.
الثاني: أن يكون ذلك واقع في الشواهد والمتابعات.
الثالث: أن يكون صنف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه، باختلاط حدث عليه غير قادح فيما رواه من قبل في زمان سداده واستقامته.
الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده، وهو عنده برواية الثقات نازل فيذكر العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفياً بمعرفة أهل الشأن بذلك، ولما أنكر أبو زرعة () على مسلم روايته عن أسباط بن نصر ()، (ص 157) وقطن بن نسير ()، وأحمد بن عيسى المصري ()، قال: إنما أدخلت من حديث أسباط، وقطن، وأحمد، ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منه بنزول، فاقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات " ().
وما أجاب به ابن الصلاح عن الإمام مسلم هو نفسه الجواب عن الإمام البخاري. (ص 158).