ولعل ذلك كان لأن السماع من جرير هو أول عهد إسحاق بن إسماعيل بطلب العلم؛ فقد قال يحيى بن معين: "لقد كلَّمني أن أُكلِّم أمَّه تأذن له بالخروج إلى جرير؛ فكلَّمتها، فأجابتني، فخرج معي اثنا عشر رجلا مشاة، ولم يكن له تلك الأيام شيء ... " [147]. ولهذا ضُعّفَتْ روايته عن جرير وحده، وهو بعد ذلك ثقة ليس به بأس، وثَّقَه ابن معين وابن حِبّان، وأخرج حديثه النسائي وابن ماجه من أصحاب الكتب الستة [148].
وإذا طرحنا رواية إسحاق بن إسماعيل الطالقاني؛ فسيبقى لدينا سبعة رواة ثقات اتفق على إخراج حديثهم البخاري ومسلم في الصحيح؛ ما عدا يوسفَ بن راشد القطان، فقد تَفرَّد الإمام البخاري بإخراج حديثه في الصحيح [149]. وأكثرهم أخذ عن جرير في أخريات عمره، وقد تلفت أصول كتبه وكان يُحَدِّث من نسخ لها على الأمانة [150]، بالإضافة إلى أنه كان في أخريات عمره يَهِمُ من حفظه؛ فنُسِبَ إلى سوء الحفظ، كما سبق أن نقلت عن البيهقي وابن حجر.
ولهذا اختلفت الروايات عن جرير، كما سبق أن رأينا؛ فقال بعضهم: "فإن الله ــ عز وجل ــ خلق آدم على صورته". فوافق الثابت الصحيح عن أبي هريرة، وقال بعضهم: "فإن ابن آدم خُلِق على صورة الرحمن". وقال بعضهم: "فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن".
وقد يكون عجيبا أنَّ ممن روى لفظ "فإن الله ــ عز وجل ــ خلق آدم على صورته" الموافق للصحيح ــ أبا الربيع الزهراني، وأبا معمر القطيعي، اللذين يغلب على الظن أنهما أقدم سماعا من جرير، وأطول صحبة له؛ فقد ولد الزهراني سنة نيف وأربعين ومائة، وتوفي سنة أربع وثلاثين ومائتين [151]. وهذا يعني أنه عاش ما بين واحد وتسعين إلى ثلاثة وتسعين عاما. عاش منها في حياة جرير ما بين خمسة وأربعين إلى سبعة وأربعين عاما.
ورواية أبي الربيع الزهراني من أعلى الروايات إسنادا حدث بها عنه مباشرة الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم (ت 287هـ) ودوَّنها في كتابه "السنة". وإذا علا إسناد الثقات؛ قَلَّ احتمال الخطأ والروايةِ بالمعنى.
أما أبو معمر القطيعي؛ فولد سنة نيف وخمسين ومائة [152]، وهذا يعني أنه عاش في حياة جرير ما بين خمس إلى سبع وثلاثين سنة [153].
وسأبدأ بالكلام عن يوسف بن موسى القطان من رواة لفظ "على صورة الرحمن" عن جرير بن عبد الحميد، وأنا أزعم أنه إنما أخذ عن جرير في أخريات عمره حينما نُسِب إلى سوء الحفظ؛ فقد ولد يوسف سنة نيف وستين ومائة، وتوفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين [154]. وهذا يعني أنه ــ عاش ما بين تسعين إلى اثنين وتسعين عاما. عاش منها في حياة جرير ما بين خمسة وعشرين إلى سبعة وعشرين عاما. والغالب أنه سمع من جرير في أخريات عمره؛ فقد قال أبو يعلى الخليلي في كتابه "الإرشاد" عن جرير: "وآخر من روى عنه من الثقات يوسف بن موسى القطان" [155]. وقال الذهبي عن يوسف: "وكان من أوعية العلم، وقد كتب عنه يحيى بن معين والكبار ... وقَبِلَ يَتَّجِرُ إلى الرَّيّ فسمع من جرير" [156].
ولا أحسب أنه يقوم على تجارة بين العراق والري في مبدأ الشباب؛ فهذا الأمر يحتاج إلى خبرة ليست بالقليلة ..
وقد لاحظت أن الدارقطني في أعلى روايتيه إسنادا روى بواسطة عن يوسف بن موسى وروى اللالكائي بواسطتين عنه لفظا مماثلا للفظ أبي الربيع الزهراني، وأبي معمر القطيعي: "فإن الله ــ عز وجل ــ خلق آدم على صورته". بينما جاءت الرواية العالية عند ابن أبي عاصم وابن خزيمة بلفظ: "فإن ابن آدم خُلِقَ على صورة الرحمن". وهذا الاختلاف في الرواية عن يوسف قد يرجع إلى الإسناد النازل واحتمال الرواية بالمعنى، وقد يرجع إلى أنَّ يوسف نفسه قد سمع اللفظين من جرير الذي ساء حفظه في أخريات عُمُره؛ فروى الحديث على الوجهين. وهذا الاحتمال الأخير هو فرضي وسأسوق ما يُؤكده بعد قليل ــ إن شاء الله تعالى.
أما روايات هارون بن معروف عند الدارقطني، وإسحاق بن إبراهيم عند الآجري، وعثمان بن أبي شيبة عند البيهقي وأبي يعلى، وزهير بن حرب عند الحارث؛ فالكلام فيها قريب مما سبق قوله في رواية يوسف بن موسى القطان؛ فقد كانوا جميعا من أتراب يوسف بن موسى تقريبا عند وفاة جرير .. هارون بن معروف مات في آخر شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وعاش أربعا وسبعين سنة [157]. وهذا يعني أنه كان في الحادية والثلاثين من عمره عند موت جرير.
¥