ثُمَّ عَقَّبَ عَلَيْهِ قَائِلاً: «وَقَدْ اشْتَرَطَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ أَنْ يُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ فِي السَّنَدِ مَحْلِ الْبَحْثِ، فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُسَدَّدُ بْنُ مَسَرْهَدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِىِّ كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. وَبِالنَّظَرِ إِلَي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَشْبَاهِهِ بِالتَّحْدِيدِ يَتَبَيِّنُ لَنَا بِالضَّبْطِ مَا الَّذِي يَعْنِيهِ التِّرْمِذِيُّ بِقَوْلِهِ: «وَيُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ» اهـ بِنَصِّهِ.
ـــــــــــ
قَالَ أبُو مُحَمَّدٍ: وَمُفَادُ دَعَوَاهُ أَنَّ الأَوْجَهَ لا تَكُونُ إِلا عَنْ الصَّحَابِِيِّ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ قَائِلاً «أَمَّا الأَوْجَهُ فَتَكُونُ تَحْتَ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ» يَقْصَدُ عَنْ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ، وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ هُوَ الَّذِي يَعْنِيهِ التِّرْمِذِيُّ بِقَوْلِهِ «وَيُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ»، وَلا يَعْنِي سِوَاهُ بِمَرَّةٍ!!.
وَاللهِ لَوْ صَحَّ الَّذِِي قَدْ قُلْتَهُ ... قُطِعَتْ سَبِيلُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ
وَأَظْهَرُ قَوْلٍ عِنْدَنَا لإِبْطَالِ هَذِهِ الدَّعْوَى الْغَرِيبَةِ هُوَ تَفْسِيرُ التِّرْمِذِيِّ نَفْسَهُ لِقَوْلِهِ «وَيُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ»، فَهُوَ مُوَضِّحُ مَعْنَاهُ كَمَا هُوَ وَاضِعُهُ كَشَرْطٍ لازَمٍ لِلْحُكْمِ عَلَى حَدِيثٍ مَا بِأَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
فَهَذِهِ عُشَّارِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى أنَّ التِّرْمِذِيَّ أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ وَالْمَخَارِجِ عَنِ النَِّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ يَقُولُ عَقِبَ كُلِّ حَدِيثٍ: «هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ هَذَا».
وَلا يَخْفَاكَ أَنَّ مَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ صَحَابِيٌُّ أَوْ أَكْثَرُ غَيْرُ الصَّحَابِيِّ الرَّاوِي لِحَدِيثِ الأَصْلِ، وَهَذَا يَعْنِي تَعَدُّدَ الطُّرُقِ وَالْمَخَارِجِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا يَعْنِي بِمَرَّةٍ الاقْتِصَارَ عَلَى إِسْنَادِ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ!!.
وَمَعَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى بَيِّنٌ بَيَانَاً لا خَفَاءَ فِيهِ وَلا غُمُوضٍ، فَإِنَّ أبَا عِيسَى كَثِيْرَاً مَا يَقْرِنُ قَوْلَهُ «رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» بِقَوْلِهِ «وَفِي الْبَاب عَنْ: فُلانٍ، وَفُلانٍ» لِنَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يَذْكُرُهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، كَنَحْوِ قَوْلِهِ تَعْقِيبَاً عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ الْعشاريَّةِ: «وَفِي الْبَابِ عَنْ: عَلِيٍّ، وَجَدِّ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفِ بْنِ عَمْرٍو. وَحَدِيثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». فَعِنْدَئِذٍ تَكُونُ رِوَايَاتُ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَجَدِّ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفِ بِمَعْنَى حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ هِيَ مُرَادُهُ مِنْ قَوْلِهِ «رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
فَهَذَا وَنَظَائِرُ لَهُ كَثِيْرَةٌ فِي تَعْقِيبَاتِ أبِي عِيسَى عَلَى حِسَانِهِ، وَصِحَاحِ حِسَانِهِ، وَغَرَائِبِ حِسَانِهِ كَالْبَيَانِ الْوَاضِحِ لِمُرَادِهِ وَمَقْصُودِهِ لِمَا اشْتَرَطَهُ فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ بِقَوْلِهِ «أَنَّ يُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ».
وإلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذَا الشَّرْطِ، فَقَالَ «شَرْحُ الْعِلَلِ» (1/ 384):
«وَقوله «أَنَّ يُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ»، يَعْنِي أَنْ يُرْوَى مَعْنَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الإِسْنَادِ».
¥