أضف إلى هذين الجوابين جوابًا ثالثًا: لا شك أن السائل يعلم أن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- كان في حياته يوجّه أصحابه والمسلمين في زمنه بتوجيهات كثيرة، وأنه كان يتحدّث معهم بغير القرآن، ويأمرهم بأوامر عديدة، هي في كثرتها تفوق القرآن الكريم عددًا ولاشك. هذا هو الذي لا يشك عاقلٌ فيه، خلال ثلاثة وعشرين عامًا عاشها النبيّ –صلى الله عليه وسلم-بعد بعثته بين أصحابه. وأحاديث السنة النبويّة الواردة عنه –صلى الله عليه وسلم- وإن شكّك السائل في أفرادها وبعض آحادها، إلا أنه لا يمكن أن يشك في أن بعضها صحيح يقينًا، ولو على وجه الإجمال دون تعيين؛ لأن هذه الأحاديث البالغة الكثرة لا يمكن أن يُتصوّر في جميعها أن تكون اختلاقًا، كما أنّ تصوّر أن يكون النبيّ –صلى الله عليه وسلم- لم يكن يتكلم إلا بالقرآن لا يقوله عاقل.
فخرجنا من هذا التقرير بأن الصحابة –رضي الله عنهم- قد تلقَّوا عن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرة سوى القرآن، وهي كانت بالنسبة لهم دينٌ يجب أن يطاع، لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" [النساء:59].
وغيرها من الآيات التي أحلنا القارئ إلى الفتوى التي ذكرناها فيها في أوّل هذا الجواب.
فإن كانت تلك الأوامر دينًا في زمن الصحابة، فلابُدّ أن تبقى دينًا إلى قيام الساعة؛ لأن ضياع شيءٍ من الدين يعني وقوع الخلل والنقص فيه، ممّا ينافي إيجاب اتّباعه على العالمين إلى يوم القيامة. وبقاءُ أوامر النبيّ –صلى الله عليه وسلم- التي كانت في زمن الصحابة لا يتمّ مع فقدانها، ولا يتمّ مع اختلاطها بما لا يصح عن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- اختلاطًا لا يمكن معه تمييز الصحيح من الضعيف، ولا يتمّ مع عدم قيامها بالحجّة ومع عدم الالتزام بها. ولذلك وجب قبول هذا النوع من السنن، ووجب الاحتجاج بها. وإلا لزم من ذلك اعتقاد نقصان الدين، وبالتالي نخالف القرآن الذي أوجب على العالمين الدخول في الإسلام، وأنه لا دين إلا الإسلام "إن الدين عند الله الإسلام" [آل عمران:19]
فَرَدُّ هذا النوع من السنن هو الذي يخالف القرآن، فكيف نردّ سنة ليس في القرآن ما يخالفها، لنخالف بهذا الردّ القرآن ونبطل حكمه؟!! والغريب أن نفعل ذلك تحت شعار تعظيم القرآن، وعدم قبول ما يعارضه!!!
الحالة الرابعة: أن تُعارض السنة المروية القرآن الكريم، وهذه المعارضة قسمان: معارضة لفظيّة غير حقيقيّة، ومعارضة حقيقيّة.
أمّا القسم الأول: وهو المعارضة اللفظية غير الحقيقية، وهي أن يأتي في السنة ما يُعارض القرآن لدى النظرة العَجْلَى وعند قليل الفقه ناقصِ العلم بلغة العرب وأساليب بيانها. فهذه المعارضة معارضةٌ موهومة، وهي في الحقيقة ليست معارضة للقرآن.
مثال ذلك: قوله تعالى: "حُرمت عليكم الميتة والدم" [المائدة:3]. وقال –صلى الله عليه وسلم-: "أحلّت لنا ميتتان ودمان، الميتتان: السمك والجراد، والدمان: الكبد والطحال". أخرجه أحمد (2/ 97)، وابن ماجه (3314).
فظاهر هذا الحديث يعارض العموم -في قوله تعالى السابق- الذي يحرم الميتة والدم، لكن هذا الظاهر لا يخفى على عاقل أنه لا يعارض الآية معارضةً حقيقيّة؛ لأنه تضمّن استثناءً لبعض ما دلّت الآية على تحريمه، ولم يُبطل الحديثُ دلالةَ الآية كلَّها.
وهذا التعامل مع الكلام يفهمه عامة العقلاء، فلو قال صاحبُ متجر لعامل لديه: لاتبع هذه البضاعة إلا بألف، ثم بعد مُدّة قال لذلك العامل: إذا جاءك، فلان فبعه تلك البضاعة بتسعمائة، هل سيعدُّ ذلك العامل هذا تناقضًا؟ أم الفهم المتبادر إلى الذهن: أن فلاناً المذكور مستثنى دون بقية الزبائن بذلك السعر المخفّض.
أقصد من ذلك أن محاولة الجمع بين النصّين المتعارضين في الظاهر منهجٌ يتّبعه الناس في فهم كلام الناس؛ لأنهم ينزّهون العقلاء عن التناقض.
¥