تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبعبارة أخرى: بعد أن ثبت أن الإمام البخاري قد قصد إيراد هذه الروايات في صحيحه، وأنه تعمّد هذا؛ فما هو وَجْهُ ذلك؟

الجواب الأول: إن البخاري تعمَّد ذكر هذا الاختلاف، ليبيّن أنه على علم به، ونبَّهَ على الرواية الصحيحة عنده باللفظ الصريح، عندما قال كما سبق عن رواية (التسعين): "وهو أصحّ".

وهذا منهج معلومٌ للبخاري في صحيحه: أنه قد يذكر الاختلاف للتنبيه عليه، لكنه يبينُّ الصواب والراجح منه. وقد نصّ على هذا المنهج بعض شُرّاح كتابه، كالحافظ ابن حجر في شرحه الشهير (فتح الباري). وهو منهجٌ متكرّرٌ في كتابه في مواطن عديدة، وهو معلومٌ لدى المشتغلين بالسنة. وغفلة السائل عن هذا المنهج للبخاري قصورٌ واضح في علمه بكتاب البخاري خاصة، يُضَاف على قصوره الواضح في علوم الحديث عمومًا، كما سبق تقريره.

ولا أقصد من التأكيد على هذا القصور (كما سبق)، إلا تنبيه السائل إلى أنه ينبغي له أن لا يعترض على علماء الأمّة بغير معرفة بالعلم الذي يعترض عليه، وهو علم السنة المشرّفة.

الجواب الثاني: إن العددَ وتحقيقه في هذه القصّة ليس له أثرٌ على فقهها والمقصود منها، فاختلاف الرواة في العدد، مع اتّحاد المعنى، وظهور الفائدة منه مع اختلاف اللفظ؛ ذلك ممّا لا يُنافي صحّة القصّة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- والتي لم تتأثر باختلاف الرواة في العدد.

ومن المعلوم أن السنة يجوز أن ترُوَى بالمعنى مع تغيُّر اللفظ، بخلاف القرآن الذي لا يجوز أن يُروَى إلا باللفظ تمامًا. واختلاف العدد في تلك القصّة وإن كان اختلافًا حقيقيًّا إلا أنه لم يؤثّر في الحكمة المستفادة منها، وهذا هو المعنى الأهمّ في الحديث.

ولذلك أخرج البخاري هذه القصّة، مع إدراكه لاختلاف العدد الوارد في روايتها؛ لأنه ليس من الصواب التوقُفُ عن قبول هذا الحديث، وهو حديثٌ يدل تعدُّد طرقه على أن أصله وأهمَّ معانيه وعامة خبره صحيحٌ عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فلا يكون من الحكمة التردّد في تصحيحه لمجرّد اختلاف الرواة في العدد، والذي لم يكن مرادًا بذاته، وإنما المراد إثبات كثرة عدد النساء، وهذا متحققٌ بأي واحدة من تلك الروايات، ليتِّضح المغزى من القصّة، وقد اتضح تمامًا، مع اختلاف الروايات الواقع!!!

وبناءً على هذا الجواب الثاني: يكون البخاري أخرج هذا الحديث مصحّحًا له، مع علمه باختلاف الرواة في العدد؛ لأن هذا الاختلاف لا يؤثّر في المعنى والمقصود الأكبر من الحديث.

ولذلك فقد بَوّب البخاري للحديث مَرّة بـ (باب: من طلب الولد للجهاد)، ومَرّة في ذكر قصص سليمان في كتاب الأنبياء، ومَرّة تحت باب (كيف كانت يمينُ النبي –صلى الله عليه وسلم-)؛ لأنه ورد في الحديث قسمٌ للنبي –صلى الله عليه وسلم- يقول فيه: "وايمُ الذي نفس محمدٍ بيده"، ومَرّةً بوّب له بـ (باب: الاستثناء في الأيمان) ومَرّةً تحت (باب: قول الرجل: لأطوفن الليلة على نسائي)، وأخيرًا تحت (باب: في المشيئة والإرادة).

فأنت تلاحظ أن هذه الأبواب كلّها، وهذه الفوائد جميعها لم تتأثر بالعدد، وأن البخاري لم يورد الحديث (ولا صدر الحديث أصلاً من النبي –صلى الله عليه وسلم-) لذكر عدد نساء سليمان عليه السلام!

ويصح أن نلخّص هذا الجواب بأن نقول: إذا كانت رواية السنة بالمعنى جائزة، وكان هذا الاختلاف في العدد لا يؤثر في المعنى المقصود من إيراد قصّة هذا الحديث، كان إيراد هذا الحديث باختلاف رواياته في العدد صحيحًا لا مطعن فيه على صحيح البخاري.

وهذان الجوابان كافيان لبيان أن هذا المثال والدليل الذي ذكره السائل للطعن في صحيح البخاري، لم يكن مثالاً نافعًا ولا دليلاً قائمًا لما أراده.

وهناك أجوبةٌ أخرى ذكرها الحافظ ابن حجر، في شرحه لصحيح البخاري المسمى بـ فتح الباري (6/ 531) شرح الحديث رقم (3424).

وبذلك أرجو أن يتضح لدى السائل أن موقفه من صحيح البخاري ليس موقفًا علميًّا؛ لأنه غير معتمد على علم صحيح، وإن قرأ عنه بعض القراءات التي أشار إليها في آخر كلامه؛ لأن تتابع الخطأ منه في الطرح والاستدلال، وغياب كثير من المعلومات المهمّة عن ذهنه = يدل ذلك على أنه لا يتناول هذا الموضوع بعلم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير