وذكر في الآيات الرابعة والخامسة والسادسة: أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم من أنواع الشبه وزخرف القول ما يغرونهم به ليجادلوا به أهل الحق, ويشبهوا به على أهل الإيمان , ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ليرضوا به, فيصولوا ويجولوا ويلبسوا الحق بالباطل, ليشككوا الناس في الحق, ويصدوهم عن الهدى, وما الله بغافل عما يعملون, لكن من رحمته عز وجل أن قيض لهؤلاء الشياطين وأوليائهم من يكشف باطلهم, ويزيح شبهتهم, بالحجج الدامغة والبراهين القاطعة, فيقيموا بذلك الحجة, ويقطعوا المعذرة, وأنزل كتابه سبحانه تبيانا لكل شيء, كما قال عز وجل: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، وقال سبحانه: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)، قال بعض السلف: هذه الآية عامة لكل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله, إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان.
قال بعض أهل العلم في تفسير ذلك: إن الإنسان قد يوقع الشيطان في نفسه من الشكوك والوساوس ما يصعب عليه أن ينطق به لعظم بشاعته ونكارته, حتى إن خروره من السماء أهون عليه من أن ينطق به, فاستنكار العبد لهذه الوساوس, واستعظامه إياها ومحاربته لها هو صريح الإيمان; لأن إيمانه الصادق بالله عز وجل وبكمال أسمائه وصفاته, وأنه لا شبيه له, ولا
وأنا أذكر لك إن شاء الله في هذا الجواب بعض ما ورد في هذه المسألة من الأحاديث, وبعض كلام أهل العلم عليها لعله يتضح لك من ذلك وللزميل المبتلى بالشبهة التي ذكرت, ما يكشف الشبهة ويبطلها ويوضح الحق, ويبين ما يجب على المؤمن أن يقوله ويعتمده عند ورود مثل هذه الشبهة, ثم أختم ذلك بما يفتح الله علي في هذا المقام العظيم, وهو سبحانه ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل.
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتابه (الجامع الصحيح): حدثنا يحيى بن بكير , حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته ثم رواه في كتاب (الاعتصام) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟) انتهى.
وأخرج مسلم في صحيحه اللفظ الأول من حديث أبي هريرة , وأخرجه مسلم أيضا بلفظ آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله ورسله ثم ساقه بألفاظ أخر.
ثم رواه من حديث أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: إن أمتك لا يزالون يقولون ما كذا ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ وخرج مسلم أيضا رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه, إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان.
ثم رواه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سئل النبي عن الوسوسة قال: تلك محض الإيمان.
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم لما ذكر هذه الأحاديث ما نصه: (أما معاني الأحاديث وفقهها, فقوله صلى الله عليه وسلم: ذلك صريح الإيمان ومحض الإيمان , معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه, ومن النطق به فضلا عن اعتقاده, إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك, واعلم أن الرواية الثانية وإن لم يكن فيها ذكر الاستعظام فهو مراد, وهي مختصرة من الرواية الأولى, ولهذا قدم مسلم رحمه الله الرواية الأولى, وقيل: معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه.
¥