تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء, ولا يقتصر في حقه على الوسوسة, بل يتلاعب به كيف أراد, فعلى هذا المعنى الحديث: سبب الوسوسة محض الإيمان, أو الوسوسة علامة محض الإيمان, وهذا القول اختيار القاضي عياض.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله. وفي الرواية الأخرى: فليستعذ بالله ولينته. فمعناه الإعراض عن هذا الخاطر الباطل والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه, قال الإمام المازري رحمه الله: ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها, من غير استدلال ولا نظر في إبطالها. وقال: والذي يقال في هذا المعنى: أن الخواطر على قسمين: فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها, وعلى هذا يحمل الحديث, وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة, فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه, وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها والله أعلم.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: فليستعذ بالله ولينته. فمعناه: إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه وليعرض عن الفكر في ذلك, وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان, وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته, وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها, والله أعلم) انتهى كلام النووي رحمه الله.

وقال الحافظ في الفتح في الكلام على حديث أبي هريرة المذكور في أول هذا الجواب ما نصه: (من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته أي: عن الاسترسال معه في ذلك, بل يلجأ إلى الله في دفعه, ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة, فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها, قال الخطابي: وجه هذا الحديث: أن الشيطان إذا وسوس بذلك فاستعاذ الشخص بالله منه, وكف عن مطاولته في ذلك اندفع, قال: وهذا بخلاف ما لو تعرض أحد من البشر بذلك فإنه يمكن قطعه بالحجة والبرهان, قال: والفرق بينهما أن الآدمي يقع منه كلام بالسؤال والجواب, والحال معه محصور, فإذا راعى الطريقة وأصاب الحجة انقطع, وأما الشيطان فليس لوسوسته انتهاء, بل كلما ألزم حجة زاغ إلى غيرها إلى أن يفضي بالمرء إلى الحيرة, نعوذ بالله من ذلك.

قال الخطابي: (على أن قوله: " من خلق ربك " كلام متهافت ينقض آخره أوله؛ لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقا, ثم لو كان السؤال متجها لاستلزم التسلسل, وهو محال, وقد أثبت العقل أن المحدثات مفتقرة إلى محدث, فلو كان هو مفتقرا إلى محدث لكان من المحدثات) انتهى.

والذي نحا إليه من التفرقة بين وسوسة الشيطان ومخاطبة البشر فيه نظر; لأنه ثبت في مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه في هذا الحديث: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله. فسوى في الكف عن الخوض في ذلك بين كل سائل عن ذلك من بشر وغيره.

وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة قال: سألني عنها اثنان, وكان السؤال عن ذلك لما كان واهيا لم يستحق جوابا. أو الكف عن ذلك نظير الأمر بالكف عن الخوض في الصفات والذات, قال المازري: (الخواطر على قسمين: فالتي لا تستقر ولا يجلبها شبهة هي التي تدفع بالإعراض عنها, وعلى هذا ينزل الحديث, وعلى مثلها يطلق اسم وسوسة, وأما الخواطر المستقرة الناشئة عن الشبهة فهي التي لا تندفع إلا بالنظر والاستدلال).

وقال الطيبي: (إنما أمر بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر ولم يأمر بالتأمل والاحتجاج; لأن العلم باستغناء الله جل وعلا عن الموجد أمر ضروري لا يقبل المناظرة; ولأن الاسترسال في الفكر في ذلك لا يزيد المرء إلا حيرة, ومن هذا حاله فلا علاج له إلا الملجأ إلى الله تعالى, والاعتصام به, وفي الحديث إشارة إلى ذم كثرة السؤال عما لا يعني المرء وعما هو مستغن عنه, وفيه علم من أعلام النبوة لإخباره بوقوع ما سيقع فوقع).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير