وانظر إلى قول ابن المديني: "ولو كان مهاجر يصح حديثه في السوق لم يُنكَر على عمرو بن دينار هذا الحديث"، وهذا كلام نفيس جدًّا، فكيف يصح هذا الحديث عن مهاصر بإسناد صحيح، ثم يتوجه إنكار الأئمة كلُّه إلى عمرو بن دينار؟! ولو كان الأئمة يرون صحة هذا الوجه، لأثبتوا به صحة رواية عمرو بن دينار، ولَمَا أنكروا عليه، لوجود هذا المتابع الثقة.
ثم إن هذا الإسناد - على انقطاعه - منكر، أنكره ابن المديني، ونقل إنكاره عن أصحابهم - كما سبق -، وأصحابهم هم أهل الحديث النقاد. ولعل نكارته في أن الحديث معروف مشهور من رواية عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم، فمن أين وقع مهاصر بن حبيب على روايته عن سالم؟! ولا يبعد أن يكون أبو خالد الأحمر أخذه عن بعض الضعفاء أو المتروكين، ممن قلب الراوي من عمرو بن دينار إلى مهاصر بن حبيب.
10 - ذكر المؤلف (ص40 - 42) ثلاث متابعات أخرى، وكفانا مؤنة بيان ضعفها الشديد ووهائها وعدم الاستشهاد بها.
فثبت من هذا كله أن متابعة محمد بن واسع ضعيفة جدًّا منكرة، ومتابعة مهاصر بن حبيب منكرة منقطعة، ولا يبقى إلا رواية عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم، وقد بيّن المؤلف أول الأمر أن إسنادها ضعيف جدًّا، وأن راويها عمرو هذا متروك.
وتقوية هذه المناكير ببعضها دليلٌ على تساهل المتأخرين وعامة المعاصرين في باب التقوية بالشواهد والمتابعات.
11 - ذكر المؤلف (ص43) الشاهد الأول للحديث، وهو من رواية يحيى بن سليم الطائفي عن عمران بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعًا.
ثم ذكر إنكار هذا الحديث على عمران بن مسلم، وأن بعض العلماء فرقوا بين عمران بن مسلم وعمران القصير، وأطال في ترجيح أنهما واحد.
والذين فرقوا بين الاثنين هم كبار أئمة الحديث: البخاري ويعقوب بن سفيان الفسوي وابن أبي خيثمة وابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي، وساوى بينهما الدارقطني وابن حبان والمزي وابن حجر.
والناظر لأول وهلة يعرف أن الجمهور من أئمة الحديث على التفريق بينهما، وقول الجمهور أقوى في الغالب.
على أن التفريق أو المساواة بينهما ليس له كبير أثر - كما سيأتي -.
ثم ذكر المؤلف (ص47) العلة الثانية التي أُعلّ بها هذا الحديث، وهي: "قول ابن أبي حاتم في العلل (2/ 181): وهذا الحديث هو خطأ، إنما أراد عمرانَ بن مسلم، عن عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير، عن سالم، عن أبيه، فغلط، وجعل بدل عمرو: عبد الله بن دينار، وأسقط سالمًا من الإسناد. قال أبو محمد: حدثنا بذلك محمد بن عمار، قال: حدثنا إسحاق بن سليمان، عن بكير بن شهاب الدامغاني، عن عمران بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن سالم، عن أبيه، عن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكره.
ووافق الدارقطنيُّ ابنَ أبي حاتم في التعليل، ولكنه حمّل الخطأ في الحديث وعصّب الجناية بيحيى بن سليم الطائفي"،
إلى أن قال المؤلف: "تعليل ابن أبي حاتم الحديث بعمران ... ".
وواضحٌ لكل ناظر أن ابن أبي حاتم لم يعلّ في كلامه الحديثَ بعمران، إنما بمن روى عنه، وأن ذلك الراوي كان يريد أن يرويَ الحديث عن عمران بن مسلم، عن عمرو بن دينار، فجعله عن عمران بن مسلم عن عبد الله بن دينار.
ولو كان يعلّ الحديث بعمران بن مسلم؛ لَمَا أسند لبيان العلّة روايةَ عمران نفسه، وإنما كان سيُسند رواية من خالفه!
ثم أطال المؤلف (ص48 - 50) في بيان أن من خالف يحيى بن سليم الطائفي (وهما: بكير بن شهاب الدامغاني ويوسف بن عطية الصفار) متروكان، ولا تُقوَّى روايتهما على رواية يحيى. قال: "ولا شك أن عمران القصير، والراوي عنه يحيى بن سليم خير منهما بكثير".
وعلى التسليم بأن رواية هذين الرجلين لا تعلّ رواية يحيى بن سليم الطائفي، فالأمر على مرتبتين:
الأولى: أنه قد أسنده الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/ 498) من طريق سليمان بن المعافى قال: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن أعين، عن أبي الأشهب، عن عمران بن مسلم، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به.
¥