أما من جهة المتن فقد أبدع في الكلام عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وبيّن بطلانه من وجوه، فقال في منهاج السنة (7/ 515 - 517): "حديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها) أضعف وأوهى، ولهذا إنما يُعد في الموضوعات، وإن رواه الترمذي، وذكره ابن الجوزي، وبيّن أن سائر طرقه موضوعة، والكذب يُعرف من نفس متنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم؛ ولم يكن لها إلا باب واحد؛ ولم يبلّغ عنه العلم إلا واحد: فسد أمر الإسلام، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلّغ عنه العلم واحدا، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب، وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن، وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة، وإذا قالوا: ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخَبَره؛ قيل لهم: فلا بد من العلم بعصمته أولا، وعصمتُه لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يعلم عصمته، فإنه دور، ولا تثبت بالإجماع، فإنه لا إجماع فيها، وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة لأن فيهم الإمام المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه، فعُلم أن عصمته لو كانت حقا لا بد أن تعلم بطريق آخر غير خبره، فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين، فعُلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنه مدحاً، وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام إذ لم يبلغه إلا واحد.
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي، أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما ظاهر، وكذلك الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي إلا شيئا قليلا، وإنما كان غالب علمه في الكوفة، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القران والسنة قبل أن يتولى عثمان، فضلا عن علي، وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر، وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من علي، ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر مما رووا عن علي، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل، ولما قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضيا وهو وعَبيدة السلماني تفقها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة" .. الخ.
ثم أسهب في بيان نشر الصحابة للعلم إلى (ص522)، فرحمه الله رحمة واسعة على ما قدَّم للسنّة وأهلها.
وقال العلامة المعلمي في حاشيته على الفوائد المجموعة (ص353): كل من تأمل منطوق الخبر ثم عرضه على الواقع عرف حقيقة الحال، والله المستعان.
وقال الإمام الألباني في الضعيفة (6/ 529): في متنه ما يدل على وضعه .. واستشهد بكلام شيخ الإسلام الآنف.
أقوال طائفة من العلماء في الحديث:
أولا: من ضعفه.
ذُكر عن يحيى بن سعيد أنه قال: ليس لهذا الحديث أصل. (نقله الزركشي في الأحاديث المشتهرة 151 عن مسند الفردوس، ونقله من بعد الزركشي عنه، كالسيوطي في الدرر المنتثرة 38 والعجلوني في كشف الخفاء).
قلت: يحيى من حفاظ أصحاب الأعمش، ولكن أخشى أن "سعيد" تصحيف من "معين"، فالعبارة عبارته، ولأن يحيى بن سعيد القطان توفي سنة 198، وهو شيخ أحمد وابن معين، ولو عرف الحديث لعلماه منه، ولما قالا: لم نسمع به قط، ولو تكلم به القطان لكان عمدة النقل في الحديث من قديم، ولجاء به مثل ابن عدي والخطيب وابن عساكر، ولا أظن الحديث وُضع إلا بعد وفاته، وذلك في الربع الأول من القرن الثالث، والله أعلم.
وقد قال ابن معين: هذا حديث كذب لا أصل له. وتقدم سياق الروايات عنه في الحديث.
وأقره الإمام أحمد، وقال: ما سمعنا به. وقد تقدم أيضاً.
وقال الترمذي في كتاب العلل (كما في التذكرة في الأحاديث المشتهرة 151 والمقاصد الحسنة): سألت محمدا [يعني البخاري] عن هذا الحديث فأنكره، وقال: هذا حديث منكر، وليس له وجه صحيح.
ولفظه في مطبوعة العلل الكبير (699): سألتُ محمداً عنه فلم يعرفه، وأنكر هذا الحديث.
وقال الترمذي في الجامع (3723): هذا حديث غريب منكر.
وقال أبوزرعة الرازي في الضعفاء (1/ 519 - 520): حديث ابن معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس: "أنا مدينة الحكمة وعلي بابها" كم من خلق قد افتضحوا فيه!
وقال أبوحاتم الرازي في الجرح (8/ 22) عن حديث علي إنه منكر.
¥