والخطيب البغدادي عرفناه من خلال كتابه (الفقيه والمتفقه)، متأثراً بأصول الفقه. بل سائراً في كثيرٍ من مباحثه على خطى شيخه أبي إسحاق الشيرازي (إبراهيم بن علي بن يوسف الفيوزبادي الشافعي، المتوفى سنة 476هـ) في كتابه (شرح اللمع)، ناقلاً عنه صراحة (2)، أو من غير تصريح (3). إلا أنه لا ئح أيضاً أن تأثرهبأصول الفقه ليس بليغاً، فالخطيب البغدادي المجدتهد في علم الحديث، ما أصدقه أن يكون مقلداً في أصول الفقه.
لذلك فإن أثر أصول الفقه على الخطيب البغدادي اقتصر على نافذتها المباشرة: بما درسته كتب الأصول من مباحث علوم السنة.
أقول ذلك، لأن (الكفاية) بعيدة كل البعد عن التأثر بصناعة المعرفات المنطقية مثلاً. فالمصطلاحات التي يشرحها الخطيب، يشرحها دون أن يلتزم بقواعد تلك الصناعات (4).
أما تأثره بما درسته كتب أصول الفقه من مباحث في علوم السنة، فيظهر من الآتي:
أولاً: إدخاله لمباحث أصولية غير معروفة في علوم الحديث قبله: مثل تقسيمه الحديث إلى متواتر وآحاد (1) (وهذا سبق ذكره بتوسع) (2)، وما تبع ذلك من حكم خبر الواحد، الواحد، وأنه مفيد للضن الموجب للعمل، وأنه لا يحتج به في العقائد (3)، وما يصح فيه التعارض من الأخبار وما لا يصح (4).
ثانياً: نقله وبثه لأقوال بعض الأصوليين، مثل: أبي بكر الباقلاني (5) وأبي الطيب طاهر بن عبد الله الطبري (6).
وهذا التأثر من الخطيب بأصول الفقه مع وضوحه، إلا أن إمامته في علم الحديث، وعدم تعمق أثر أصول الفقه عليه، مع وضوح المنهج السليم في دراسة علوم الحديث ومصطلحه عنده تمام الوضوح (كما سبق ذكره عنه) = جعل ذلك الأثر الأصولي على كتابه غير مخوفٍ منه، لأنه أثر مفضوح، لا يشتبه بعلوم الحديث ومسائله عند أهل الاصطلاح التي ملأ الخطيب غالب كتابه بها.
وهذا هو الفرق بين: الخطيب وكتابه (الكفاية)، ومن جاء بعده ممن كتب في علوم الحديث.
فالفرق الأول: أن الخطيب لم يتأثر بأصول الفقه إلا من خلال نافذتها المباشرة.
والفرق الثاني: أن ما نقله عن أصول الفقه مباحث واضحة وأقوال منسوبة، لا تختلط بكلام أهل الاصطلاح، ولا تذكر على أنها من كلامهم. فلا يفعل الخطيب ما يفعله المتأخرون من ذلك، فضلاً عن أن يفعل فعلهم في تأويل كلام أحد أئمة الحديث على غير ظاهره، وعلى غير مراد ذلك الإمام ليوافق كلام الأصوليين!
ولنضرب لذلك مثلاً: (باب الكلام في الأخبار وتقسيمها) (7) الذي قسم فيه الأخبار إلى متواتر وآحاد، و (باب الرد على من قال يجب القطع على خبر الواحد بأنه كذب إذا لم يقع العلم بصدقه) (8)، و (باب ذكر شبهة من زعم أن خبر الواحد يوجب العلم وإبطالها) (9)؛ هذه الأبواب ليس فيها إسناد واحد، بل كلها من كلام الخطيب نفسه، إلا الباب الأخير الذي نقل الخطيب ما فيه عن أبي بكر الباقلاني!
ولذلك قال ابن الصلاح عن كلام الخطيب في (باب تقسيم الأخبار): ((في كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث)) (10).
ثم إن الخطيب وإن تأثر بأصول الفقه، فهو المحدث الناقد بالدرجة الأولى. لذلك نجده يرجح خلاف ما ينقله عن الأصوليين تارة (11)، ويقدم عمل المحدثين على ما ينقله عن بعض المتكلمين تارة أخرى (12)، ويصوب ما يدل عليه حال أهل الحديث
على حجج بعض الفقهاء في مسائل الحديث أيضاً (1).
هذا إضافةً إلى أهم ما يميز كتاب الخطيب (الكفاية)، وهو: استيعابه لجل أقوال أئمة الحديث من (أهل الاصطلاح) في أصول علمهم وشرح مصطلحهم، واعتماده على تلك الأقوال في تقرير قواعد العلم وشرح عباراته. إذ هذا هو المنهج النظري الذي كان قد ألزم الخطيب نفسه به، وقد التزم به بالفعل في جل كتابه (2).
لذلك فإن كتاب الخطيب، لغزارة ما فيه من نقول، يبقى أهم مصدرٍ من مصادر علوم الحديث، المساعدة على فهم معاني مصطلحه.
أما الأثر الأصولي فيه، فهو أثر في مباحث قليلةٍ أولاً، ثم هو أثر واضحة مواضعه في كتابه (الكفاية)، لا يصعب تخليص كلام أهل الحديث منها وتمييزه عنها.
والخطيب في منهجه المشروح آنفاً، وفي تأثره بأصول الفقه، يصلح مثلاً لأبناء عصره جلهم، من المحدثين الذين كتبوا علوم الحديث.
ولنبدأ الآن بذكر بقية من صنف في علوم الحديث من أهل القرن الخامس:
¥