وقال في موطن آخر: ((ومن الدليل على أن (عن) محمولة عند أهل العلم بالحديث على الاتصال، حتى يتبين الانقطاع فيها: ما حكاه أبو بكر الأثرم، عن أحمد بن حنبل .. )) (2).
وقال في موطن آخر أيضاً: ((وأما التدليس: فمعناه عند جماعة أهل العلم بالحديث ... )) (3).
فمثل هذه المواطن، وكثرة نقوله عن أئمة الحديث، خاصة من أهل القرن الثالث فما قبله = تدل على أن ابن عبد البر كان سائراً على المنهج الصحيح في فهم مصطلح الحديث، وأنه كان يعلم من هم (أهل الاصطلاح) الذين يجب عليه أن يعرف معاني كلامهم وألقاب علمهم.
وابن عبد البر مع ذلك عالم أثري، سلفي العقيدة، يبدع أهل الكلام والأشعرية!
يقول ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله): ((أجمع أهل الفقه والآثار، من جميع الأمصار: أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم)) (4).
ويقول أيضاً: ((أهل الأهواء عند مالكٍ وسائر أصحابها: هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع، أشعرياً كان أو غير اشعري. ولا تقبل له شهادة في الإسلام، ويفجر، ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها)) (5).
وعلى هذا، فلن يكون للمذاهب الكلامية أثر على ابن عبد البر، من جهة العقيدة.
لكن ابن عبد البر ممن استبق جيلهم التأثر بأصول الفقه، وهو ا بن جيله، فلا بد أن يكون لأصول الفقه أثر عليه.
وأما الأدلة الواقعية من كلام ابن عبد البر على تأثره بالأصول، فمنها ما ذكره في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) من تقسيمه (العلم) إلى قسمين: (ضروري) و (مكتسب) (1). بل لقد صرح في باب تقسيم الحديث إلى متواتر ومقابله بأنه ناقل من كتب الأصول، حيث ذكر أقسام معرفة الدين، ثم قال: ((والقسم الثاني: معرفة مخرج خبر الدين وشرائعه. وذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ... ، ومعرفة أصحابه ... ، ومعرفة الرجال الذين حملوا ذلك ... ، ومعرفة الخبر الذي يقطع العذر يقطع العذر لتواتره وظهوره. وقد وضع العلماء في (كتب الأصول) من تلخيص وجوه الأخبار، ومخارجها، ما يكفي الناظر فيه ويشفيه ... )) (2).
إذن فرجعنا إلى مسألة تقسيم الأخبار إلى (متواتر) و (آحاد) وأنه حتى ابن عبد البر ممن تأثر بالأصول في هذا التقسيم، كما صرح هو نفسه بنقله لذلك من (كتب الأصول).
وقد تعرض ابن عبد البر لجانب من جوانب هذه المسألة في مقدمة (التمهيد)، حيث تكلم عن حجية (خبر الواحد). فنريد أن نقف أيضاً من رأيه في هذه المسألة، لنعلم درجة تأثره بالأصول
فقال أولاً: ((أجمع أهل العلم، من أهل الفقه والأثر، في جميع الأمصار، فيما علمت: على قبول خبر الواحد العدل، وإيجاب العمل به، إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع. على هذا جميع الفقهاء في كل عصر، من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع، شرذمة لا تعد خلافاً)) (3).
وهذا كلام عليه نور الأثر، وأدب السنة مع السنة!
لكنه قال في موطنٍ لا حقٍ: ((واختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد العدل: هل يوجب العلم والعمل جميعاً، أم يوجب العمل دون العلم؟
والذي عليه أكثر أهل العلم منهم: أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر. ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله، وقطع العذر بمجيئه قطعاً، ولا خلاف فيه.
وقال قوم كثير من أهل الأثر، وبعض أهل النظر:
إنه يوجب العلم الظاهر والعمل (4) جميعاً، منهم الحسين الكرابيسي وغيره، وذكر، ابن خويزمنداد أن هذا القول يخرج عل مذهب مالك.
(قال ابن عبد البر:) والذي نقول به: إنه يوجب العمل دون العلم، كشهادة الشاهدين والأربعة سواء. وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر ن وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده، على ذلك جميع أهل السنة، ولهم في الأحكام ما ذكرنا)) (5).
¥