هذا كلام ابن عبد البر، وهو من أفضل الأمثلة على من تأثر بأصول الفقه دون علم الكلام وعقيدة المتكلمين. فهو يقسم الأخبار إلى (متواتر) و (آحاد)، ويحكم على (الآحاد) أنه يفيد (الظن الموجب للعمل دون العلم)، وهذا كله من أثر أصول الفقه (6)
لكنه بعد ذلك ينقل أن (خبر الآحاد) حجة في العقائد والأحكام بالإجماع، وهذا من أثر عقيدته السلفية!!
أما ا لتا ثر بالمنطق وصناعة المعرفات، فلم يظهر لها أثر على ابن عبد البر، في شرحه للمصطلحات وتفريها بها.
فيقول في شرحه للاسناد المعنعن: ((و الإسناد المعنعن:
فلان عن فلان عن فلان عن فلان)) (1).
ويقول في تعريفه بالتدليس: ((أما التدليس: فهو أن يروي الرجل عن الرجل قد لقيه، وأدرك زمانه، وأخذ عنه، وسمع منه، وحديث عنه بما لم يسمعه منه، وإنما سمعه من غيره عنه، ممن ترضى حاله، أو لا ترضى على الأغلب في ذلك، إذ لو كانت حاله مرضية لذكره، وقد لا يكون، إلا أنه استصغره)) (2).
ونحو هذه التعريفات البعيدة كل البعد عن صناعة المناطقة. وعلى هذا فمقدمة ابن لكتابه (التمهيد) تمتاز باتباعها المنهج السليم في فهم مصطلح الحديث، وبندرة الأثر الأصولي عليها.
فإذا انتهينا من مقدمة ابن عبد البر، نذكر (تبعاً) قرينه أبا محمد ابن حزم (علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندليسي الظاهري، المتوفى سنة 456هـ). وإنما قلت تبعاً، لأنه في تعرضه لعلوم الحديث الذي نتحدث عنه، إنما تعرض لها في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام)، وهو كتاب في أصول الفقه، لا في علوم الحديث، ولا مقدمة لكتاب في الحديث.
ويكفي في بيان منهج ابن حزم من علوم السنة في كتابه (الإحكم)، أنه كتاب في أصول الفقه أصلاً!
نعم، لابن حزم مذهب خاص، وهو ظاهريته.
ونعم، لابن حزم منهج خاص في كتابه، بكثرة استدلاله بأدلة الكتاب والسنة، وبالرد على المتكلمين (وهو منهم!!).
لكن كتابه لم يزل من كتب أصول الفقه!!
ويضيق صدري أحياناً من ظاهريته في تقرير قواعد علم الحديث، مما يدل على أنه ليس بفقيه في علله!
انظر إليه وهو يقول: ((وقد غلط أيضاً قوم آخرون منهم، فقالوا: فلان أعدل من فلان، وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة)) (3).
القوم الآخرون هؤلاء هم كافة نقاد الحديث، الذي رتبوا المقبولين على مراتب، ورتبوا أصحاب المرتبة الواحدة في الشيخ الواحد على مراتب أيضاً. ولهم في ذلك نفائس الأقوال، وصنفوا في ذلك غرر الفوائد!!!
وتعجب منه وهو يقول أيضاً: ((وقد علل قوم احاديث: بأن رواها ناقلها عن رجل مرة وعن رجلٍ مرة أخرى.
وهذا قوة للحديث ن وزيادة في دلائل صحته، ودليل على جهل من جرح الحديث بذلك)) (1).
كذا بإطالاق؟!! قاتل الله ظاهرية كهذه!!!
وله مثلها في حكم زيادة الثقة (2)!
والكتاب بعد ذلك على هذه الشاكلة، يمثل قواعد ابن حزم ومصطلحه، لا قواعد الحديث ومصطلحه عند أهله.
ولا أحسب أنني هنا في حاجةٍ على تنبيه القارىء الكريم: إلى عظيم إجلالي للعلماء، وجليل إعظامي لهم. وإلى شدة محبتي ـ والله ـ لهم، وتعلقي بسيرهم وأخبارهم وحالهم. وإلى إيماني بأن علمهم يجل عن الوزن، ولا يجوز فيه القياس، من مثلي وأشباهي. ولولا ذلك، لما استفدت فائدة، ولا عرفت الحق (بحمد الله تعالى)، ولا بدأت سلوك مسالك طلبة العلم.
فلست في حاجةٍ بعد هذا التنبيه، إلى تكرير ديباجةٍ طويلة ثقيلة، عند كل نقد علمي موضوعي بناء (ولو كان هذا النقد خطأًَ في حقيقته). تلك الديباجة التي تثقل البحوث: باملدائح الرنانة في المنتقد، وبالأيمان المغلظة على حسن النوايا. إلى درجة الغو في الممدوح، والإزراء من الناقد لنفسه، وإلى حد الإسفاف (أحياناً) والبعد عن أدب العلم وإنصاف الموضوعية، اللذين إنما قدم بتلك الديباجة الثقية لهما!! وكأن الأصل في الباحث الكذب وسوء الطوية، والأصل في القارىء الشك وسوء النية!!!
(فلماذا نخاف من النقد؟!).
لننتقل بعد هذا، إلى عالمٍ مغربي آخر، لكنه من القرن الخامس الهجري، هو القاضي عياض بن موصى بن عياض السبتي المالكي (ت 544هـ).
¥