وما أريد ذكره هنا أن الحافظ صرح بأن السبب من تفريقه بين: (رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه) بتسميته (إرسالاً خفياً)، و (رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه) بحصر (التدليس) فيها؛ بين أن سبب هذا التفريق هو: ((لتتميز الأنواع)) (6)، يعني من أجل (تطوير المصطلحات)!!!
وفي هذه المسألة يتضح اعتناق الحافظ لـ (فكرة تطوير المصطلحات)، وأنه كان مؤمناً بها، لا يرى فيها ما يدعو إلى عدم السعي لتحقيقها!!
والوقوف على عجائب ذلك وغرائبه، يستلزم منك الوقوف على تلك الدراسة المطولة، المشار إليها آنفاً.
فإذا مضينا مع (النزهة)، نقف عند أنواع الطعن في الراوي، ومسمى حديث من طعن فيه بأحدها (1)؛ لتلمح (التطوير) والتحكم في ذلك من النظرة الأولى! فإذا فحصت عن ذلك ظهر لك تأكيد تلك الملامح!!
فإذا عجلت المضي في (النزهة)، يستوقفك قول الحافظ: ((فإن كان ذلك (يعني التغيير) بالنسبة إلى النقط: فـ (المصحف، وإن كان بالنسبة إلى الشكل (2): فـ (المحرف) .. )) (3).
وهذا التفريق تفريق حادث، واصطلاح خاص بالحافظ، لم يسبقه إليه أحد!!
وقد أشار بعض شراح (النزهة)
إلى أن هذا التفريق اصطلاح للحافظ دون غيره (4).
وقال الإمام العلامة المحدث أحمد بن محمد شاكر بن أحمد الشريف الحسيني المصري (1377هـ)، في حاشية تحقيقه لألفية الحديث للسيوطي، بعد ذكره لتفريق الحافظ بين (المصحف) و (المحرف): ((وهو اصطلاح جديد، وأما المتقدمون فإن عباراتهم يفهم منها أن الكل يسمى بالاسمين، وأن التصحيف مأخوذ من النقل عن الصحف، وهو نفسه تحريف)) (5).
وتبعه على ذلك عبد الفتاح أبو غدة في تحقيقه لـ (قفو الأثر) (6).
وقد كنت رددت تفريق الحافظ هذا في أصل هذا البحث بالأدلة، ثم طبع حديثاً كتاب (التصحيف وأثره في الحديث والفقه ودجهود المحدثين في مكافحته) للأستاذ أسطيري جمال. وقد أطال في رد هذا التفريق، وفي الاستدلال لنقضه، بما يكفي ويشفي. فاستغنيت عما كنت كتبته، بما أحيل إليه من ذلك الكتاب (7).
والأعجب من ذلك كله، هو موقف بعض شراح (النزهة). فبعد تقريرهم أن تفريق الحافظ اصطلاح خاص به، قالوا: ((ولا مشاحة في الاصطلاح))!!!
فأقول: لكن الذي فعله الحافظ هو (المشاحة)!! لأنه يتكلم عن مصطلح أهل الأثر، كما سمى كتابه، وليس يتكلم عن مصطلحه الخاص به!! وتفريقه ذاك مخالف لاصطلاح أهل الأثر، فيقال له هو: ((لا مشاحة في الاصطلاح))!!!
وهنا أنتهي من كلامي عن (نزهة النظر)، بما أظهرت به أن لـ (النزهة) ـ في مواضع منها ـ منهجاً غير سديد في فهم المصطلح، قائماً على (فكرة تطوير المصطلحات) التي كررنا التأكيد على خطرها وأثرها المدمر على علوم الحديث (1).
وأرجو ـ بعد ذلك ـ أن يكون مقصودي واضحاً، فلا يفسر على غير ما أردت. إذ إنه ليس غرضاً لي ـ ولم يكن ولن يكون غرضاً لي ـ الحط من كتاب كـ (نزهة النظر). إنما أردت بيان فضل المنهج السليم في فهم مصطلح الحديث على المناهج الأخرى، وبيان من سار على ذلك المنهج أو تلك المناهج من المصنفين في علوم الحديث.
فإذا عدنا إلى سياق كتب علوم الحديث، وتلمس مناهجها، بعد الحافظ ابن حجر، فأقول ـ مختصراً المقال:ـ
إن اشهر الكتب في علوم الحديث بعد الحافظ ابن حجر، هي: (فتح المغيث شرح ألفية الحديث) للسخاوي (ت 902هـ)، و (تدريب الراوي شرح تقريب النواوي) للسيوطي (ت 911هـ)، و (توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الآثار) للأمير الصنعاني (ت 1182هـ).
وقد اتخذت هذه الكتب، وغيرها مما وضع في عصرها أو بعده، من (نزهة النظر) للحافظ ابن حجر= أصلاً أصيلاً، ومصدراً أساسياً، في فهم مصطلح الحديث وتقرير قواعده. فتناقلت الكتب ما جاء في (النزهة)، ونصرته، غالباً.
ولقد كان السخاوي مثالاً للتلميذ المتعصب لشيخه: الحافظ ابن حجر، وحق له ـ والله ـ ذاك!! لكن الحافظ عندي إمام، وابن الصلاح إمام، والخطيب إمام، والحاكم إمام، وغيرهم من نقاد الحديث أئمة أيضاً. فلا معنى للتعصب عندي لأحدهم دون الآخر!! لذلك رأيت الحق أولى ما ابتغي وسعي إليه، وأحق ما نصر وتعصب له!!
¥