ويستمر هذا النظر، بالانتقاد نفسه، إلى الحافظ ابن حجر. فعندما ذكر الحافظ تعريف الخطابي للحديث الحسن، وما وجه إليه من انتقاد، ذكر جواباً عن ذلك الانتقاد للحافظ العلائي (خليل بن كيكلدي، الموفى سنة 761هـ). فقال الحافظ ابن حجر، مشيراً إلى جواب العلائي: ((وعلى تقدير تسليم هذا الجواب، فهذا القدر غير منضبط، فيصح ما قال القشيري (يعني ابن دقيق العيد): أنه على غير صناعة الحدود والتعريفات)) (5).
فالانتقاد المتوجه على تعريف الخطابي للحديث الحسن، عند الحافظ ابن حجر: أنه على غير صناعة الحدود المنطقية!
ثم يهاجم علامة اليمن محمد بن إسماعيل الصنعاني الأمير (ت 1182هـ) الحافظ ابن حجر، فيقول في (توضيح الأفكار): ((ويقال للحافظ: وكذلك تعريفك (الحسن) في النخبة وشرحها بقولك: (فإن خف: أي قل الضبط، مع بقية الشروط المتقدمة في حد الصحيح فحسن لذاته) = غير منضبطًٍ أيضاً، فإن خفة الضبط أمر مجهول)) (6).
ثم أخذ الأمير في بيان العموم والخصوص المذكور بين (الصحيح) و (الحسن)، وتوسع غاية التوسع في شرح (العموم) و (الخصوص) عند الأصوليين (7)، حتى إن الناظر في كلامه ليعجب من هذا المبحث الأصولي البحت، ما الذي جاء به إلى مبحث (الحديث الحسن)؟
ثم ينتقل الأمير إلى علم المنطق الخالص: إلى الكلام عن الحدود والرسول، والفرق بينهما، وعلاقتهما بالمعرفات .. وغير ذلك من علم المنطق الصرف (8)؛ وهذا كله في مبحث (الحديث الحسن)
وخلال كلام الأمير هذا، جاءت كلمة ابن الوزير الفاصلة، والقول الحق، الذي كنا قد ذكرناه سابقاً، وهو قوله: ((وذكر الحدود المحققة أمر أجنبي عن هذا الفن، فلا حاجة إلى التطويل فيه)) (1)
وأكتفي بهذا القدر اليسير في حجمه، العظيم في دلالته، من الكلام عن منهج من جاء بعد ابن الصلاح، لنقف عند تحولٍ جديد وأعمق في هذا العلم.
ونحن في هذه الوقفة، عند هذا التحول في منهج التصنيف في علوم الحديث، لنرى (فكرة تطوير المصطلحات) ماثلةً أمام أعيننا، ونمسك أثر علوم المنطق وأصول الفقه متجسداً في أحد تصانيف هذا العلم.
أعني بهذا كتاب (نزهة النظر (2) في توضيح نخبة الفكر)، كلاهما للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ). و (النخبة) وشرحها هذان، من حين ما صنفا، احتلاً مكان الصدارة في كتب علوم الحديث، (فلا يحصى كم ناظمٍ لها ومختصر، ومستدرك عليها ومقتصر، ومعارضٍ لها ومنتصر) (3). لذلك كان للمنهج الذي سار عليه الحافظ فيهما أكبر الأثر فيمن جاء بعده، إلى عصري هذا
وقبل دخولي في بيان المؤخذات على (نزهة النظر)، أحيل القارىء الكريم إلى كلامٍ سابقٍ لي، اعتذرت فيه عن تكرير ديباجة الاعتذار عند كل نقدٍ علمي موضوعي (4)، فلا تأثم – لا أثمت – بسوء النية قبل الوقوف عليها
أقول هذا لما لـ (تزهة النظر) من قدسيةٍ لا تنال عند أهل عصري، وكأنها كتاب ناطق أو سنة ماضية
وليس عندي – بحمد الله – لغير كتاب الله وصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرشدا إليه قدسية، فالكتاب وحده الذي اختص بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسنة الثابتة وحدها المعصوم صاحبها صلى الله عليه وسلم، وما أرشدا إليه وحده هو شرع الله العظيم الكامل التام.
وليس عندي أيضاً ـ بحمد الله ـ أدنى شك في أهمية كتاب (نزهة النظر)، وفي كثيرٍ من مباحثه الجليلة العظيمة النفع.
كل ما في الأمر أني رأيت لـ (نزهة النظر) في بعض مباحثه منهجاً غريباً على علوم السنة، وغاية أغرب في تفسير مصطلحاتها. وأحسب هذا المنهج والغاية خطيرين على السنة النبوية وعلومها، فلم أر الأمر يسعني بالسكوت عن ذلك.
وإياك إياك أن تتفرس الأسطر، وتقرأ ما بينها (بزعمك)، لتقول علي ما لم أقل، وتنسب ‘لي ما لا علاقة لي به. فمرادي هو المنطوق دون المفهوم ولازم مذهبي بلازم
والله يعينني وإياك على طريق الحق وقبوله
وأقول هذا، لنه قد بلغ الأمر على درجة أن الناظر في (نزهة النظر) يحسب أن الحافظ يصنف في بيان مصطلحه الخاص به، أو أن للحافظ الحق في التحكم بمصطلحات المحدثين، بتصويب هذا وتخطيء ذاك، وباختيار مدلول دون آخر، وبابتداع فروق وقيود جديدة على المصطلحات ومعانيها
¥