تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

, و يكفي أن ابن طاهر الذي يتساهل في أحاديث التصوف و يروي منها الغث

و السمين قد أنكره و شهد ببطلانه.

نعم ابن عباس لا ينكر ذلك عنه , و قد ذكر أبو محمد بن حزم عنه أنه سئل عن الميت

عشقا فقال: قتيل الهوي لا عقل له و لا قدر , و رفع إليه بعرفات شاب قد صار

كالفرخ فقال: ما شأنه ? قالوا: العشق , فجعل عامة يومه يستعيذ من العشق.

فهذا نفس ما روى عنه في ذلك.

و مما يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عد الشهداء في الصحيح , فذكر

المقتول في الجهاد و الحرق و الغرق , و المبطون , و النفساء يقتلها ولدها , و

صاحب ذات الجنب , و لم يذكر منهم من يقتله العشق , و حسب قتيل العشق أن يصح له

هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما على أنه لا يدخل الجنة حتى يصبر لله , و

يعف لله و يكتم لله , لكن العاشق إذا صبر و عف و كتم مع قدرته على معشوقه و آثر

محبته لله و خوفه و رضاه فهو من أحق من دخل تحت قوله تعالى * (و أما من خاف

مقام ربه و نهى النفس عن الهوى , فإن الجنة هي المأوى) * و تحت قوله تعالى *

لمن خاف مقام ربه جنتان) *.

و الحديث أورده السيوطي في " الجامع الصغير " من رواية الخطيب عن عائشة و عن

ابن عباس , و هذا يوهم أن له طريقين أحدهما عن عائشة و الآخر عن ابن عباس ,

و الحقيقة أنه طريق واحد , وهم في سنده بعض الضعفاء فصيره من مسند عائشة ,

و إنما هو من مسند ابن عباس كما تقدم , فقد أخرجه الخطيب في " تاريخه " (12 /

479) من طريق أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي: حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن

مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا به , و قال:

رواه غير واحد عن سويد عن علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس

و هو المحفوظ , و كذا قال في " المؤتلف " أيضا كما في " اللسان " و أشار إلى أن

الخطأ في هذا الإسناد من الطوسي هذا , قال الدارقطني: ليس بالقوي , يأتي

بالمعضلات.

قلت: فهذا الإسناد منكر لمخالفة الطوسي لرواية الثقات الذين أسندوه عن سويد

بسنده عن ابن عباس , فلا يجوز الاستكثار بهذا الإسناد و التقوي به لظهور خطئه

و رجوعه في الحقيقة إلى الإسناد الأول , و قد قال ابن القيم في " الداء و

الدواء " (ص 353) بعد أن ساق رواية الخطيب هذه:

فهذا من أبين الخطأ , و لا يحمل هشام عن أبيه عن عائشة مثل هذا عند من شم أدنى

رائحة الحديث , و نحن نشهد بالله أن عائشة ما حدثت بهذا عن رسول الله

صلى الله عليه وسلم قط , و لا حدث به عروة عنها و لا حدث به هشام قط.

و خلاصة القول أن الحديث ضعيف الإسناد من الطريقين , و قد أنكره العلامة ابن

القيم من حيث معناه أيضا و حكم بوضعه كما رأيت , و قد أوضح ذلك في كتابه " زاد

المعاد " أحسن توضيح فقال (3/ 306 - 307):

و لا تغتر بالحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم ساقه من

الطريقين ثم قال , فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و لا

يجوز أن يكون من كلامه , فإن الشهادة درجة عالية عند الله مقرونة بدرجة

الصديقية و لها أعمال و أحوال هي شروط في حصولها و هي نوعان عامة و خاصة ,

فالخاصة الشهادة في سبيل الله و العامة خمس مذكورة في الصحيح ليس العشق واحدا

منها ,

و كيف يكون العشق الذي هو شرك المحبة و فراغ عن الله و تمليك القلب و الروح

و الحب لغيره تنال به درجة الشهادة! ? هذا من المحال , فإن إفساد عشق الصور

للقلب فوق كل إفساد بل هو خمر الروح الذي يسكرها و يصدها عن ذكر الله و حبه ,

و التلذذ بمناجاته و الأنس به , و يوجب عبودية القلب لغيره , فإن قلب العاشق

متعبد لمعشوقه بل العشق لب العبودية , فإنها كمال الذل و الحب و الخضوع

و التعظيم فكيف يكون تعبد القلب لغير الله مما تنال به درجة أفاضل الموحدين

و ساداتهم و خواص الأولياء! ? فلو كان إسناد هذا الحديث كالشمس كان غلطا

و وهما , و لا يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ العشق من حديث صحيح

البتة , ثم إن العشق منه حلال و منه حرام , فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم

أنه يحكم على كل عاشق يكتم و يعف بأنه شهيد! ? أفترى من يعشق امرأة غيره أو

يعشق المردان و البغايا ينال بعشقه درجة الشهداء! ? و هل هذا إلا خلاف المعلوم

من دينه صلى الله عليه وسلم ? كيف و العشق مرض من الأمراض التي جعل الله سبحانه

لها من الأدوية شرعا و قدرا , و التداوي منه إما واجب إن كان عشقا حراما ,

و إما مستحب , و أنت إذا تأملت الأمراض و الآفات التي حكم رسول الله صلى الله

عليه وسلم لأصحابها بالشهادة وجدتها من الأمراض التي لا علاج لها , كالمطعون

و المبطون و المجنون و الحرق و الغرق , و منها المرأة يقتلها ولدها في بطنها ,

فإن هذه بلايا من الله لا صنع للعبد فيها و لا علاج لها , و ليست أسبابها محرمة

و لا يترتب عليها من فساد القلب و تعبده لغير الله ما يترتب على العشق , فإن لم

يكف هذا في إبطال نسبة هذا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقلد

أئمة الحديث العالمين به و بعلله فإنه لا يحفظ عن إمام واحد منهم قط أنه شهد له

بصحة , بل و لا بحسن , كيف و قد أنكروا على سويد هذا الحديث و رموه لأجله

بالعظائم و استحل بعضهم غزوه لأجله.

و خلاصة الكلام أن الحديث ضعيف الإسناد موضوع المتن كما جزم بذلك العلامة ابن

القيم في المصدرين السابقين , و كذا في رسالة " المنار " له أيضا (ص 63) و

مثله في " روضة المحبين " و الله أعلم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير