وإنما مرادهم بذلك أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه اللَّهُ أو مما يكرهه اللَّهُ بنصٍّ أو إجماعٍ كتلاوةِ القرآنِ، والتسبيحِ، والدُّعاءِ، والصَّدقةِ، والعتقِ، والإحسانِ إلى الناسِ، وكراهةِ الكذبِ والخيانةِ، ونحو ذلك، فإذا رُوِيَ حديثٌ فى فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها وكراهة بعض الأعمال وعقابها، فمقادير الثوابِ والعقابِ وأنواعه إذا رُوِيَ فيها حديثٌ لا نعلم أنه موضوعٌ جازت روايتُهُ والعملُ به بمعنى أنَّ النفسَ ترجو ذلك الثوابَ أو تخاف ذلك العقابَ كرجل يعلم أن التجارةَ تُرْبِحُ لكن بلغه أنها تربح ربحاً كثيراً، فهذا إن صدق نفعه، وإن كذب لم يضره، ومثال ذلك الترغيبُ والترهيبُ بالإسرائيلياتِ والمناماتِ، وكلماتِ السَّلَفِ والعلماءِ، ووقائعِ العلماءِ، ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثباتِ حكمٍ شرعيٍّ لا إستحباب ولا غيره، ولكن يجوز أن يُذكر فى الترغيب والترهيب والترجيةِ والتخويفِ.
فما عُلِمَ حُسنُهُ أو قبحُهُ بأدلَّةِ الشَّرعِ، فإنَّ ذلك ينفعُ ولا يضرُّ، وسواءٌ كان فى نفسِ الأمرِ حقًّا أو باطلاً، فما عُلِمَ أنَّه باطلٌ موضوعٌ لم يجزِ الإلتفاتُ إليه؛ فإنَّ الكذبَ لا يفيد شيئاً، وإذا ثبت أنَّه صحيحٌ أثبتت به الأحكام وإذا إحتمل الأمرين رُوِيَ لإمكانِ صِدْقِهِ ولعدمِ المضرَّةِ فى كذبهِ.
وأحمدٌ إنما قال: ((إذا جاء الترغيبُ والترهيبُ تساهلنا فى الأسانيد))، ومعناه: أنَّا نروي فى ذلك بالأسانيدِ، وإن لم يكن محدِّثوها من الثقاتِ الذين يُحتجُّ بهم، وكذلك قول من قال يُعْمَلُ بها في فضائلِ الأعمالِ، إنَّما العملُ بها العملُ بما فيها مع قولِهِ () فى الحديثِ الصَّحيحِ: ((إذا حدَّثكم أهلُ الكتابِ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم))، فإنَّه رَخَّصَ فى الحديثِ عنهم، ومع هذا نهى عن تصديقِهم وتكذيبِهم، فلو لم يكن فى التحديثِ المطلقِ عنهم فائدةٌ لَمَا رَخَّصَ فيه، وأَمَرَ بهِ، ولو جاز تصديقُهم بمجردِ الأخبارِ لَمَا نهى عن تصديقِهم؛ فالنفوسُ تنتفع بما تظنُّ صدقَه فى مواضعَ.
فإذا تضمَّنتْ أحاديثُ الفضائلِ الضعيفةِ تقديراً وتحديداً مثل صلاةٍ فى وقتٍ معيَّنٍ بقراءةٍ معيَّنةٍ أو على صفةٍ معيَّنةٍ، لم يجز ذلك؛ لأنَّ إستحبابَ هذا الوصفِ المعين لم يثبت بدليلٍ شرعيٍّ بخلاف ما لو روى فيه: ((من دخل السُّوقَ فقال: لا إله إلا اللَّه، كان له كذا وكذا)) فإنَّ ذِكْرَ اللَّهِ فى السُّوقِ مستحبٌّ لِمَا فيه من ذكرِ اللهِ بين الغافلين كما جاء فى الحديثِ المعروفِ: ((ذاكرُ اللَّهِ فى الغافلين كالشَّجرةِ الخضراءِ بين الشَّجَرِ اليابسِ)).
[قلت: هذا حديثٌ ضعيفٌ، خرَّجه أبو نعيمٍ في ((الحلية)) [3/ 42] عن ابنِ عُمَرَ، وله تتمَّةٌ، وقد تصرَّف شيخُ الإسلامِ في قوله: ((بين الشجر اليابس))، وإنَّما هو: ((مثل الشجرةِ الخضراءِ في وسطِ الشجرِ))].
فأمَّا تقديرُ الثَّوابِ المرويِّ فيه فلا يضر ثبوتُهُ ولا عدمُ ثبوتِهِ، وفى مثله جاء الحديثُ رواه الترمذيُّ:
((من بلغه عن اللَّهِ شيءٌ فيه فضلٌ فعمل به جاء ذلك الفضل أعطاه الله ذلك وإن لم يكن ذلك كذلك)).
فالحاصلُ: أنَّ هذا الباب يُرْوَى ويُعمل به فى الترغيبِ والترهيبِ لا فى الإستحبابِ ثم إعتقاد موجبه وهو مقادير الثواب والعقاب يتوقف على الدليلِ الشرعيِّ)). (انتهى كلامُ شيخِ الإسلامِ).
قال الشيخ الألبانيُّ: ((ونستطيع أن نستخلص منه (يعني: من كلامِ شيخِ الإسلامِ):
أنَّ الحديثَ الضعيفَ له حالتان:
الأولى: أن يحمل في طواياه ثواباً لعمل ثبت مشروعيته بدليل شرعيٍّ. فهنا يجوزُ العمل به، بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثواب، ومثال عنده: الهليل في السوق بناء على أن حديثه لم يثبت عنده، وقد عرفتَ رأينا فيه.
¥