ثم نقل [ص/55، 56] عن المحقِّقِ جلال الدين الدواني أنه قال: ((اتفقوا على أن الحديث الضعيف لا يثبت به الأحكام الخمسة الشرعيَّة، ومنها الاستحباب)).
قلت: وهذا هو الصَّواب؛ لما تقدَّم من النهي عن العمل بالظنِّ الذي يفيده الحديث الضعيف، ويؤيده شيخ الإسلام ابنُ تيمية في ((القاعدة الجليلة في التوسُّلِ)):
((ولا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة، لكن أحمد بنُ حنبلٍ وغيره من العلماء، جوَّزوا أن يُروى في فضائل الأعمال ما لم يعلم أنه ثابثٌ، إذا لم يعلم أنه كَذِبٌ، وذلك أن العمل لإذا عُلِمَ أنه مشروعٌ بدليلٍ شرعيٍّ، ورُوِيَ في فضله حديثٌ لا يُعلمُ أنه كذبٌ، جاز أن يكون الثواب حقًّا، ولم يقل أحدٌ من الأئمةِ أنه يجوز أن يجعل الشيءَ واجباً أو مستحبًا بحديثٍ ضعيفٍ، ومن قال هذا فقد خالف الإجماعَ.
وأمَّا الجواب على مطلبك الثاني أخي ابن راح، فيتأتى من بقيَّةِ كلام شيخ الإسلام، قال:
((وما كان أحمد بنُ حنبلٍ، ولا أمثاله يعتمدون على مثل هذه الأحاديث في الشريعة، ومن نقل عن أحمدَ أنه كان يحتجُّ بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيحٍ ولا حسنٍ؛ فقد غلط عليه .... )).
قلت (أشرف بن صالح العشريُّ):
قال الحافظُ زين الدين أبو الفرج بنُ رجب الحنبليُّ ـ رحمه اللَّه ـ في ((شرح علل الترمذيِّ)) [1/ 137]: ((وكان الإمام أحمد يحتجُّ بالحديثِ الضعيفِ الذي لم يرد خلافه، ومراده بالضعيف قريب من مراد الترمذي بالحسن)) قلت: وهو اصطلاحُ الحسن لغيرِهِ. وهو أرجى عنده من القياس.
قلت: وهذا مذهب أبي داودَ السِّجستانيِّ ـ رحمه اللَّه ـ صاحبِهِ. والظاهرُ من الاحتجاج هنا أنَّه في الأحكام العملية لا في الفضائل وأضرابها، واللَّهُ أعلم ..
* وأمَّا مرادك: بأنَّ الإمامَ أحمدَ كان يأخذ بالحديثِ الضعيف في الفضائل؛ فإنما هذا مقتبسٌ من قوله الآتي عرضه مع بيانِ مقصدِهِ منه ـ رحمه اللَّه ـ:
قال العلامة محدِّثُ وادي النيلِ الشيخُ أبو الأشبالِ أحمد شاكر ـ رحمه اللَّه ـ في ((الباعث الحثيث)) [ص/101]:
((وأمَّا ما قاله أحمد بنُ حنبلٍ، عبدُ الرحمن بنُ مهديٍّ، وعبدُاللَّه بنُ المباركِ:
((إذا روينا في الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوه تساهلنا)):
فإنما يريدون به ـ فيما أُرجِّحُ، واللَّه أعلم ـ أنَّ التساهلَ إنما هو في الأخذِ بالحديث الحسنِ الذي لم يصل إلى درجة الصِّحةِ؛ فإن الاصطلاح في القرقةِ بين الصحيح والحسنِ لم يكن في عصرهم مستقرًّا واضحاً؛ بل كان أكثرُ المتقدِّمين لا يصفُ الحديث إلا بالصحةِ أو الضعفِ فقط)).
قال الشيخ الألبانيُّ ـ رحمه اللَّه ـ في المصدر السالف ذكره وبموضعه:
((وعندي وجه آخر في ذلك: وهو أن يُحملَ تساهلهم المذكور على روايتهم إيَّاها مقرونة بأسانيدها ـ كما هي عادتهم ـ هذه الأسانيد التي بها يمكن معرفةَ ضعف أحاديثها، فيكون ذكر السند مُغنياً عن التصريح بالضعفِ، وأمَّا أن يرويها بدون أسانيدِها، كما هي طريقة الخلفِ، ودون بيان ضعفِها، كما هو صنيع جمهورِهِم، فهم أجلُّ وأتقى للَّهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ من أن يفعلوا ذلك، واللَّه تعالى أعلم.
وقال في ((السلسلة الضعيفة)) [2/ 52] حكماً عاما على هذه المسألة قريباً مما تقدم:
((ولا يُرَدُّ هنا ما اشتهر من القولِ بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمالِ، فإن هذا محلُّه فيما ثبت مشروعيته بالكتاب أو السنة الصحيحة، وأما ما ليس كذلك فلا يجوز العمل فيه بالحديث الضعيف؛ لأنه تشريعٌ، ولا يجوز ذلك بالحديثِ الضعيف؛ لأنه لا يفيد إلاَّ الظنَّ المرجوحَ اتفاقاً، فكيف يجوز العمل بمثله؟!))
فلينتبه لهذا من أراد السلامةَ في دينه؛ فإن الكثيرين عنه غافلون)).
وقال في ((السلسلة الضعيفة)) [7/ 240]: ((لا يصلح في ((فضل قزوين)) حديثٌ؛ بل غالبها باطلٌ موضوعٌ .. ولا تغترَّ بفعل (أو بفضل: هكذا) المؤلفين في فضلها؛ فإنهم يتساهلون في روايةِ أحاديثَ الفضائلِ، وبعضهُم يُؤلِّف الكتبَ لبيان ضعفها ووهائها، وهذا مما يُشكرونَ عليه، لولهم المثوبة عند اللَّهِ ـ تبارك وتعالى. انتهى.
وقال في ((حاشية اختصار علوم الحديث)) [1/ 278]:
((وأما العمل بالحديث الضعيف في الفضائل، فقد نقل النوويُّ الاتفاقَ على جواز العملِ به، ودفعه القاري في ((شرح الشمائل)) قال: ((لأن الضعيف يُعملُ به فضائل الأعمال المعروفة في الكتاب والسنة، لكن لا يُستدلُّ به إثبات الخصلةِ المستحبِّةِ))
قال الشيخ الألبانيُّ: ((وهذا من دقيق فهمه ـ رحمه اللَّه تعالى ـ)). انتهى.
وقد ابتدأنا بالكلام على نقل الإمام النوويِّ ـ رحمه اللَّه ـ الاتفاق على جواز العمل بالحديث الضعيف في الفضائلِ وفي الترغيبِ والترهيبِ والردِّ على ذلك، وبه قد ختمنا.
نسأل اللَّه ـ جلَّ وعلا ـ أن يغفر لنا جهلنا وتقصيرنا، وأن يتداركنا برحمته، إنَّه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
وأخيرأ اقتنع الأخُ الحبيبُ، وانتهى الأمر، ولِلَّه الحمدُ والمنَّة.
¥