((إذا جاء الحلال والحرام شدَّدنا في الأسانيد، وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد)).
فهذا نصٌّ فيما قلناه، ومثله قولُ ابنِ الصَّلاح في ((علوم الحديث)) (ص/113): ـ ((ويجوزُ عند أهلِ الحديثِ وغيرِهم التساهلُ في الأسانيدِ، وروايةِ ما سوى الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما سوى صفات اللَّه وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما، وذلك كالمواعظِ والقصص وفضائل الأعمال، وسائر فنون الترغيب والترهيب، وسائر مالا تعلُّقَ له بالأحكام والعقائد)).
فتأمل في قوله: ((التساهل في الأسانيد)) يتجلَّى لك صحةُ ما ذكرنا.
السبب في ذلك أنَّ من ذكر إسناد الحديث فقد أعذر وبرئت ذمته؛ لأنه قدَّم لك الوسيلة التي تمكِّن من كان عنده علم بهذا الفنِّ من معرفةِ حال الحديث صحةً أو ضعفاً، بخلاف من حذف إسناده، ولم يذكر شيئاً عن حاله، فقد كتم العلم الذي عليه أن يبلِّغَه.
من أجل ذلك عقَّب ابنُ الصَّلاحِ على ما تقدَّم بقوله:
((إذا أردت روايةَ الحديثِ الضعيفِ بغيرِ إسنادٍ فلا تقل فيه: قال رسولُ اللَّه ... )).
ولنعم ما قال الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه اللَّه ـ في ((الباعث الحثيث)) (ص/101): ((والذي أُراه أنَّ بيان الضعفِ في الحديث واجبٌ على كلِّ حالٍ؛ لأن ترك البيان يوهم المُطَّلعَ عليه أنه حديثٌ صحيحٌ، خصوصاً إذا كان الناقلُ من علماءِ الحديثِ الذين يُرجعُ إلى قولهم في ذلك، وأنَّه لا فرق بين الأحكامِ وبين فضائلِ الأعمالِ ونحوِها في عدمِ الأخذِ بالروايةِ الضعيفةِ؛ بل لا حجة لأحدٍ إلا بما صحَّ عن رسولِ اللَّه من حديث صحيحٍ أو حسنٍ)).
قلت (الشيخ الألبانيُّّ): والوجه الآخر الذي يحتمله كلامُ المنذريِّ المتقدم إنما هو ذِكْرُ الأحاديثِ الضعيفةِ بدون أسانيدها ودون بيان حالها حتى الموضوع منها، فهذا في اعتقادي مما لا أتصوَّر أن يقوله أحدٌ من العلماء الأتقياء، لما فيه من المخالفة لما تقدَّم في كلام الإمام مسلم (وكان قد نقلَه) من نصوصِِ الكتابِ والسنةِ في التحذيرِ من الروايةِ عن غير العدول، لا فرق في ذلك بين أحاديثِ الأحكامِ والترغيبِ والترهيبِ وغيرِها.
وأصرح منه قوله ـ يعني الأمامَ ملسماً بنَ الحجَّاجِ في تقدمته لصحيحه ـ بعد بحثٍ هامٍّ في وجوب الكشف عن معايبَ رواةِ الحديث وذكر أقوال الأئمة في ذلك، قال (1/ 29):
((وإنما ألزموا أنفسَهم الكشف عن معايبَ رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدِّين إنما تأتي بتليلٍ أو تحريمٍ، أو أمرٍ أو نهيٍ، أو ترغيبٍ أو ترهيبٍ؛ فإذا كان الراوي لها ليس بمعدنٍ للصدق والأمانةِ، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفتَه كان آثماً بفعله ذلك، غاشاً لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضَها، ولعلَّها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أنَّ الأخبارَ الصِّحاحَ من رواية الثقاتِ وأهلِ القناعةِ أكثرُ من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقةٍ، ولا أحسب كثيرأ ممن يُعرِّجُ من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة ويعتدَّ بروايتها بعد معرفتِه بما فيها من الضعفِ ـ إلا أن الذي يحمله على روايتها والاعتدادِ بها إرادةُ التكثُّرِِ بذلك عند العوامِ، ولأن يُقال: ما أكثرُ ما جَمَعَ فلانٌ من الحديثِ وألَّف من العددِ! ومن ذهب في العلمِ هذا المذهبَ، وسلك هذا الطريقَ؛ فلا نصيبَ له فيه؛ وكان بأن يسمَّى جاهلاً؛ أولى من أن يُنسبَ إلى علمٍ)).
قال الشيخ الألبانيُّ ـ رحمه اللَّه ـ:
((والحقيقةُ: أنَّ تساهلَ العلماءِ بروايةِ الأحاديثِ الضعيفةِ ساكتين عنها قد كان من أكبر الأسباب القويَّة التي حملت الناسَعلى الابتداعِ في الدِّين؛ فإنَّ كثيراً من العباداتِ التي عليها كثيرٌ منهم اليوم إنما أصلها اعتمادهم على الأحاديثِ الواهيةِ، بل والموضوعةِ .... وساعدهم على ذلك تلك القاعدةُ المزعومةُالقائلةُ بجوازِ العملِ بالحديثِ الضعيفِ في الفضائلِِِِ غير عارفين أنَّ العلماءَ المحققين قد قيَّدوها بقيدين اثنين:
¥