أحدهما حديثي، وقد سبق تفصيله، وخلاصةُ ذلك أنَّ كلَّ من يريد العملَ بحديثٍ ضعيفٍ ينبغي أن يكون على علمٍ بضعفهِ؛ لأنَّه لا يجوزُ له العمل به إذا كان شديد الضعفِ، ولازم هذا الحد من العمل بالأحاديث الضعيفة وانتشارها بين الناس، لو قام أهلُ العلمِ بواجبِ بيانِها.
وأمَّا القيد الآخر: وهو الفقهيُّ: فهذا أوان البحث فيه فأقول:
قد دندن الحافظُ ابنُ حجرٍ حوله في الشرط الثاني بقوله: ((وأن يكون الحديث الضعيف مندرجاً تحت أصلٍ عام ... )).
إلا أنَّ هذا القيدَ غيرُ كافٍ في الحقيقة؛ لأنَّ غالبَ البدعِ تندرج تحت أصلٍ عامٍّ، ومع ذلك فهي غيرُ مشروعةٍ، وهي التي يُسمِّيها الإمامُ الشاطبيُّ بالبدعةِ الإضافية، وواضح أنَّ الحديثَ الضعيفَ لا ينهض لإثبات شرعيتِها، فلا بد من تقييد ذلك بما هو أدقُّ منه كأن يُقال أن يكون الحديث الضعيف قد ثبت شرعيةُ العملِ بما فيه بغيره مما يصلح أن يكون دليلاً شرعيًّا، وفي هذه الحالة لا يكون التشريع بالحديث الضعيف، وغاية ما فيه زيادةُ ترغيبٍ في ذلك العمل مما تطمع النفسُ فيه فتندفعُ إلى العمل أكثر مما لو لم يكن قد رُوِيَ فيه هذا الحديثُ الضعيفُ.
قال شيخُ الإسلام ِ ابنُ تيمية ـ رحمه اللَّه ـ في ((مجموع الفتاوى)) [1/ 251]:
((وذلك أن العمل إذا عُلِمَ أنه مشروعٌ بدليلٍ شرعيٍّ، ورُوِيَ في فضله حديثٌ لا يُعلمُ أنه كذبٌ جاز أن يكون الثوابُ حقًّا، ولم يقل أحدٌ من الأئمةِ أنَّه يجوز أن يجعلَ الشيء واجباً أو مستحبًّا بحديث ضعيفٍ، ومن قال هذا فقد خالف الإجماعَ)).
وقد فصَّل الشيخُ ـ رحمه اللَّه ـ هذه المسألةَ الهامَّةَ في مكانٍ آخر في ((مجموع الفتاوى)) [18/ 65ـ68] تفصيلاً لم أره لغيرِهِ من العلماءِ، فأرى لزاماً عليَّ أن أُقدِّمَه إلى القُرَّاءِ؛ لما فيه من الفوائدِ والعلمِ، قال بعد أن ذكر قول الإمام أحمدَ المتقدِّمِ:
((وكذلك ما عليه العلماءُ من العملِ بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يُحتجُّ به، فإن الاستحباب حكمٌ شرعيٌّ فلا يثبت إلا بدليلٍ شرعيٍّ، ومن خبَّر عن اللَّه أنه يحبُّ عملاً من الأعمالِ من غير دليلٍ شرعيٍّ فقد شَرَعَ من الدين ما لم يأذن به اللَّه، كما لو أَثْبَتَ الإيجابَ أو التحريمَ، ولهذا يختلفُ العلماءُ في الاستحباب كما يختلفون في غيرهِ؛ بل هو أصلُ الدين المشروع.
وإنما مرادهم بذلك أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه اللَّهُ أو مما يكرهه اللَّهُ بنصٍّ أو إجماعٍ كتلاوةِ القرآنِ، والتسبيحِ، والدُّعاءِ، والصَّدقةِ، والعتقِ، والإحسانِ إلى الناسِ، وكراهةِ الكذبِ والخيانةِ، ونحو ذلك، فإذا رُوِيَ حديثٌ فى فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها وكراهة بعض الأعمال وعقابها، فمقادير الثوابِ والعقابِ وأنواعه إذا رُوِيَ فيها حديثٌ لا نعلم أنه موضوعٌ جازت روايتُهُ والعملُ به بمعنى أنَّ النفسَ ترجو ذلك الثوابَ أو تخاف ذلك العقابَ كرجل يعلم أن التجارةَ تُرْبِحُ لكن بلغه أنها تربح ربحاً كثيراً، فهذا إن صدق نفعه، وإن كذب لم يضره، ومثال ذلك الترغيبُ والترهيبُ بالإسرائيلياتِ والمناماتِ، وكلماتِ السَّلَفِ والعلماءِ، ووقائعِ العلماءِ، ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثباتِ حكمٍ شرعيٍّ لا إستحباب ولا غيره، ولكن يجوز أن يُذكر فى الترغيب والترهيب والترجيةِ والتخويفِ.
فما عُلِمَ حُسنُهُ أو قبحُهُ بأدلَّةِ الشَّرعِ، فإنَّ ذلك ينفعُ ولا يضرُّ، وسواءٌ كان فى نفسِ الأمرِ حقًّا أو باطلاً، فما عُلِمَ أنَّه باطلٌ موضوعٌ لم يجزِ الإلتفاتُ إليه؛ فإنَّ الكذبَ لا يفيد شيئاً، وإذا ثبت أنَّه صحيحٌ أثبتت به الأحكام وإذا إحتمل الأمرين رُوِيَ لإمكانِ صِدْقِهِ ولعدمِ المضرَّةِ فى كذبهِ.
¥