وأحمدٌ إنما قال: ((إذا جاء الترغيبُ والترهيبُ تساهلنا فى الأسانيد))، ومعناه: أنَّا نروي فى ذلك بالأسانيدِ، وإن لم يكن محدِّثوها من الثقاتِ الذين يُحتجُّ بهم، وكذلك قول من قال يُعْمَلُ بها في فضائلِ الأعمالِ، إنَّما العملُ بها العملُ بما فيها مع قولِهِ () فى الحديثِ الصَّحيحِ: ((إذا حدَّثكم أهلُ الكتابِ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم))، فإنَّه رَخَّصَ فى الحديثِ عنهم، ومع هذا نهى عن تصديقِهم وتكذيبِهم، فلو لم يكن فى التحديثِ المطلقِ عنهم فائدةٌ لَمَا رَخَّصَ فيه، وأَمَرَ بهِ، ولو جاز تصديقُهم بمجردِ الأخبارِ لَمَا نهى عن تصديقِهم؛ فالنفوسُ تنتفع بما تظنُّ صدقَه فى مواضعَ.
فإذا تضمَّنتْ أحاديثُ الفضائلِ الضعيفةِ تقديراً وتحديداً مثل صلاةٍ فى وقتٍ معيَّنٍ بقراءةٍ معيَّنةٍ أو على صفةٍ معيَّنةٍ، لم يجز ذلك؛ لأنَّ إستحبابَ هذا الوصفِ المعين لم يثبت بدليلٍ شرعيٍّ بخلاف ما لو روى فيه: ((من دخل السُّوقَ فقال: لا إله إلا اللَّه، كان له كذا وكذا)) فإنَّ ذِكْرَ اللَّهِ فى السُّوقِ مستحبٌّ لِمَا فيه من ذكرِ اللهِ بين الغافلين كما جاء فى الحديثِ المعروفِ: ((ذاكرُ اللَّهِ فى الغافلين كالشَّجرةِ الخضراءِ بين الشَّجَرِ اليابسِ)).
[قلت: هذا حديثٌ ضعيفٌ، خرَّجه أبو نعيمٍ في ((الحلية)) [3/ 42] عن ابنِ عُمَرَ، وله تتمَّةٌ، وقد تصرَّف شيخُ الإسلامِ في قوله: ((بين الشجر اليابس))، وإنَّما هو: ((مثل الشجرةِ الخضراءِ في وسطِ الشجرِ))].
فأمَّا تقديرُ الثَّوابِ المرويِّ فيه فلا يضر ثبوتُهُ ولا عدمُ ثبوتِهِ، وفى مثله جاء الحديثُ رواه الترمذيُّ:
((من بلغه عن اللَّهِ شيءٌ فيه فضلٌ فعمل به جاء ذلك الفضل أعطاه الله ذلك وإن لم يكن ذلك كذلك)).
فالحاصلُ: أنَّ هذا الباب يُرْوَى ويُعمل به فى الترغيبِ والترهيبِ لا فى الإستحبابِ ثم إعتقاد موجبه وهو مقادير الثواب والعقاب يتوقف على الدليلِ الشرعيِّ)). (انتهى كلامُ شيخِ الإسلامِ).
قال الشيخ الألبانيُّ: ((ونستطيع أن نستخلص منه (يعني: من كلامِ شيخِ الإسلامِ):
أنَّ الحديثَ الضعيفَ له حالتان:
الأولى: أن يحمل في طواياه ثواباً لعمل ثبت مشروعيته بدليل شرعيٍّ. فهنا يجوزُ العمل به، بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثواب، ومثال عنده: الهليل في السوق بناء على أن حديثه لم يثبت عنده، وقد عرفتَ رأينا فيه.
والأخرى: أن يتضمَّن عملاً لم يثبت بدليلٍ شرعيٍّ، يظن بعضُ الناس أنَّه مشروعٌ، فهذا لا يجوز العمل به .. وقد وافقه على ذلك العلامَّةُ الأصوليُّ المحقِّقُ الإمامُ أبو إسحاق الشاطبيُّ الغِرْنَاطيُّ في كتابه العظيم: ((الاعتصام)) فقد تعرَّض لهذه المسألة توضيحاً وقوَّةً بما عُرِفَ عنه من بيانٍ ناصعٍ، وبرهانٍ ساطعٍ، وعلمٍ نافعٍ، في فصل عقدة للبيان طريق الزائغين عن الصراطِ المستقيم، وذكر أنها من الكثرة بحيث لا يمكن حصرها مستدلاً على ذلك بالكتابِ والسنةِ، وأنها لا تزال تزداد على الأيام، وأنَّه يمكن أن يجد بعده استدلالاتٍ أُُخَر، لا سيما عند كثرة الجهل وقلَّةِ العلم، وبُعْدِ الناظرين فيه عن درجةِ الاجتهاد، فلا يمكن إذن حصرُها ... (ثم ذكر كلامَه، وهو قريبٌ من كلامِ شيخ الإسلام ابن تيمية المتقدِّم عرضه).
ثم قال: هذا كلُّه من كلام الإمام الشاطبيِّ، وهو يلتقي تمام الالتقاء مع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمهما اللَّه ـ ومن الطريف أن هذا مشرقيٌّ وذاك مغربيٌّ، جمع بينهما، على بُعدِ الدارِ، المنهجُ العلميُّ الصحيحُ.
قال الشيخ الألبانيُّ: ((ليس يخفى أنهَّ من غير الميسورِ تمييز الحديث الضعيف الذي يجوز العمل به، من الذي لا يجوز العمل به، إلا على المحدثين الفقهاء بالكتاب والسنة الصحيحة، وما أقلَّهم! ولذلك فإني أُرى أنَّ القولَ بالجوازِ بالشرطين السابقين نظريٌّ غيرُ عمليٍّ بالنسبة لجاهير الناس؛ لأنه من أين لهم تمييز الحديث الضعيف من الضعيف جدًّا؟ ومن أين لهم تمييز ما يجوز العمل به منه فقهيًّا مما لا يجوز؟ فيرجع الأمر عمليًّا إلى قولِ ابن العربيِّ المتقدِّمِ: ((أنَّه لا يُعمل بالحديثِ الضعيفِ مطلقاً)). وأشار الشيخُ في الحاشية فقال معقباً على كلام ابن العربي: وهو ظاهر
¥