وهكذا يقال في التصحيح، ربما يصحح المتقدم حديثاً فيأبى ذلك المتأخر،وربما-في الحالين-توارد الأولون وتتابعت كلماتهم على شيء،ومع ذلك لا يلتفت المتأخر إلى هذا الإجماع،أو شبه الإجماع.
وليس ما تقدم بالشيء اليسير،بل هو موجود بكثرة بالغة أوجبت أن يثور في نفوس كثير من العلماء والباحثين السؤال التالي: هل هذا الاختلاف سببه اختلاف الاجتهاد في تطبيق قواعد متفق عليها بين الجميع؟ فإذا قال أحمد –مثلاً- هذا الحديث منكر،أو لا يصح،وقال ابن جرير،أو ابن حزم،أو ابن القطان،أو النووي،أو السيوطي، أو أحد المشايخ المعاصرين: بل هو حديث صحيح،أو في غاية الصحة- فسبب ذلك راجع إلى اختلاف اجتهاد الإمامين،في تطبيق قواعد لا يختلفون عليها،وإنما يقع الاختلاف في الاجتهاد في تطبيقها،أو أن سبب الاختلاف هذا في جل الأحاديث التي وقع فيها الاختلاف مبني على اختلافهم في تقرير القواعد والضوابط التي على أساسها تصحح الأحاديث وتضعف،فالأول يسير على قواعد،ما لبث أن أغفلت عند المتأخرين، أو هذبت حتى لم يبق فيها روح، وحل محلها قواعد جديدة.
من يجيب بالجواب الأول لا جديد عنده، فالمسألة مسألة اجتهاد، وليس هناك شيء يستحق المناقشة، وباب الاجتهاد لا يصح إغلاقه،وإن دعى إلى ذلك بعضهم، بل قد يكون مع المتأخر-هكذا يقول- زيادة علم.
غير أن نفراً ليس بالقليل عددهم لم يرضوا بالجواب الأول،ويقولون:بل الأمر راجع في حقيقته إلى اختلاف في القواعد،إما عن عمد،كما صرح به بعضهم،فيقول: ذهب المحدثون إلى كذا،والصواب خلافه،وإما عن غير عمد، بحيث يسير على قاعدة يظن أن المتقدم يسير عليها أيضاً.
ويضيف بعض هؤلاء فيقول: على أن جانباً من الموضوع لا يتعلق بالقواعد،إذ هو يتعلق أساساً بشخص الناقد في الوقت الأول،وشخص الناقد في الوقت المتأخر، فالناقد في ذلك الوقت تهيأ له من العوامل النفسية،والمادية ما يجعل أحكامه أقرب إلى الصواب.
والمهم هنا هو ما يتعلق بقضية القواعد التي خالف المتأخر فيها المتقدم،إذ يبرز هؤلاء مجموعة قواعد يقولون إنها هي القواعد الأساس،ويتفرع عنها قواعد أخرى، وهذه القواعد هي:
أولاً: تجزئة حال الراوي.
فالمتقدم قد يكون الراوي عند ثقة في جانب،كبعض شيوخه،أو روايته عن أهل بلد،أو إذا حدث من كتابه،ضعيف في جانب آخر، فيضعف المتقدم ما يرويه في الجانب الذي هو ضعيف.
على حين يميل المتأخر إلى طرد حال الراوي، إما نصاً فيأبى تجزئة حال الراوي،وإما تطبيقاً، كأن يضعف الأولون ما يرويه معمر بن راشد عن ثابت البناني،ويقولون إنها نسخة فيها مناكير،أو ما يرويه عبد العزيز الداروردي عن عبيد الله بن عمر، بينما لا يلتفت المتأخر إلى ذلك،فهذه كتبهم وتحقيقاتهم يصححون أمثال هذين الطريقين،وربما ذكروا أنهما على شرط الشيخين أو أحدهما.
ثانياً: الأصل في الراوي أنه لم يسمع ممن روى عنه، حتى يثبت ذلك بطريق راجح.
هكذا يقرر المتقدم، على حين أن الأصل عند المتأخر أنه متى روى عنه وأمكنه أن يسمع منه فهو متصل،وهو على السماع حتى يثبت خلاف ذلك.
رابعاً: إذا روى الحديث جماعة عن شيخ لهم،وزاد بعضهم زيادة في إسناد الحديث، كوصله أو
رفعه، أو في متن الحديث، فإن المتقدم يسير على قاعدة: النظر في كل زيادة بحسبها.فقد تقوم
القرائن والأدلة على حفظها،وقد تقوم على ضعفها، في حين يسير المتأخر على قاعدة: زيادة الثقة مقبولة. وطرد هذه القاعدة،وتصحيح هذه الزيادات.
خامساً: تعدد الطرق من راو واحد قد يكون سببه اضطرابه أو اضطراب من يروي عنه، ولهذا تدرس بعناية، فقد يكون بعضها صواباً،وبعضها خطأ، وقد يتبين أن كثرة الطرق ترجع إلى طريق واحد، وما يظن أنه شاهد ليس كذلك، لأنه خطأ من بعض الرواة في تسمية الصحابي مثلاً، بل قد يكون ما يظن أنه شاهد هو كاشف لعلة في الحديث الذي يراد الاستشهاد له،على هذا يسير المتقدم،ويخالفه المتأخر،فيجوِّز كثيراً أن الطريقين محفوظان بل قد يذهب إلى عدد من الطرق والأوجه.
¥