فإنه حديث صحيح كما ترى اتفق الشيخان على إخراجه ولفظه يقتضي حصر الكمال في النساء في مريم وآسية ولعل المراد بذلك في زمانهما فإن كلا منهما كفلت نبيا في حال صغره فآسية كفلت موسى الكليم، ومريم كفلت ولدها عبد الله ورسوله، فلا ينفي كمال غيرهما في هذه الامة كخديجة وفاطمة فخديجة خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة خمس عشرة سنة وبعدها أزيد من عشر سنين، وكانت له وزير صدق بنفسها ومالها، رضي الله عنها، وأرضاها، وأما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها خصت بمزيد
فضيلة على أخواتها لانها أصيبت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية أخواتها متن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأما عائشة فإنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ولم يتزوج بكرا غيرها ولا يعرف في سائر النساء في هذه الامة بل ولا في غيرها أعلم منها، ولا أفهم، وقد غار الله لها حين قال لها أهل الافك ما قالوا فأنزل براءتها من فوق سبع سموات وقد عمرت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من خمسين سنة تبلغ عنه القرآن والسنة وتفتي المسلمين وتصلح بين المختلفين وهي أشرف أمهات المؤمنين حتى خديجة بنت خويلد أم البنات والبنين في قول طائفة من العلماء السابقين واللاحقين والاحسن الوقف فيهما رضي الله عنهما وما ذاك إلا لان قوله صلى الله عليه وسلم: " وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام "
العلماء قديما وحديثا وبجانبها طرقا يقتصر عليها أهل الشيع وغيرهم لا يعدلون بخديجة أحدا من النساء لسلام الرب عليها، وكون ولد النبي صلى الله عليه وسلم جميعهم - إلا إبراهيم منها.
وكونه لم يتزوج عليها حتى ماتت إكراما لها، وتقدير إسلامها، وكونها من الصديقات ولها مقام صدق في أول البعثة.
وبذلت نفسها ومالها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأما أهل السنة فمنهم من يغلو أيضا ويثبت لكل واحدة منهما من الفضائل ما هو معروف، ولكن تحملهم قوة التسنن على تفضيل عائشة لكونها ابنة الصديق، ولكونها أعلم من خديجة فإنه لم يكن في الامم مثل عائشة في حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها، ولم يكن الرسول يحب أحدا من نسائه كمحبته إياها ونزلت براءتها من فوق سبع سموات وروت بعده عنه عليه السلام علما جما كثيرا طيبا مباركا فيه حتى قد ذكر كثير من الناس الحديث المشهور " خذوا شطر دينكم عن الحميراء " (1) (والحق أن كلا منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره وحيره، والاحسن التوقف في ذلك إلى الله عزوجل.
ومن ظهر له دليل يقطع به، أو يغلب على ظنه في هذا الباب فذاك الذي يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم ومن حصل له توقف في هذه المسألة أو في غيرها فالطريق الاقوم والمسلك الاسلم أن يقول الله أعلم.
وقد روى الامام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد " (2) أي خير زمانهما.
وروى شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قرة بن إياس رضي الله عنه.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث، مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد.
وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " (3) رواه ابن مردويه في تفسيره.
وهذا إسناد صحيح إلى شعبة وبعده.
قالوا والقدر المشترك بين الثلاث نسوة، آسية ومريم وخديجة أن كلا منهن كفلت نبيا مرسلا وأحسنت الصحبة في كفالتها وصدقته فآسية ربت موسى وأحسنت إليه وصدقته حين بعث، ومريم كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها وصدقته حين أرسل.
وخديجة رغبت في تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وبذلت في ذلك أموالها كما تقدم وصدقته حين نزل عليه الوحي من الله عزوجل.
وقوله: " وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " هو ثابت في الصحيحين من طريق شعبة أيضا عن عمرو بن مرة عن مرة الطيب الهمداني عن أبي موسى الاشعري.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون.
ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " والثريد هو الخبز واللحم جميعا وهو أفخر طعام العرب كما قال بعض الشعراء: إذا ما الخبز تأدمه بلحم * فذاك، أمانة الله الثريد
ويحمل قوله " وفضل عائشة على النساء " أن يكون محفوظا فيعم النساء المذكورات وغيرهن، ويحتمل أن يكون عاما فيما عداهن ويبقى الكلام فيها وفيهن موقوف يحتمل التسوية بينهن فيحتاج من رجح واحدة منهن على غيرها إلى دليل من خارج والله أعلم.