فما أيسره عملاً، وأسهله منهجاً، أن يعمد أحدهم إلى الحديث وقد اطَّلع على بعض مصادره، فيتعرف على رجال إسناده، ثم يقابلهم بما اختصره الحافظ المزى أو الذهبى أو العسقلانى من مراتبهم فى الجرح والتعديل، ويحكم بمقتضى ذلك على الحديث بالضعف أو الصحة، كنحو قوله ((هذا حديث ضعيف، لأن راويه ضعيف))، و ((هذا حديث منكر، لأن راويه يروى المناكير))، و ((هذا حديث موضوع، لأن راويه كذاب أو وضاع)).
وقد أفرزت هذه السطحية والظاهرية كماً هائلاً من الأحكام الخاطئة على الأحاديث النبوية، والآثار المصطفوية، حتى تطرق ذلك إلى أحاديث ((الصحيحين))، و ((السنن الأربعة))، وصحيحى ابن خزيمة وابن حبان، والكثير من الأحاديث التى احتج بها أكثر أهل العلم من المحدثين والفقهاء والأصوليين. ومن محدثات الأمور فى ذلك أن حُملتْ أحكام أئمة الجرح والتعديل على غير محاملها، وصُرفتْ إلى غير معانيها، وحُرفتْ عن مواضعها، فضلاً عن الآراء المنحرفة فى حقِّ الكثير من رفعاء الأئمة وعلماء الأمة.
ومما يحسُن نقله هاهنا، قول الإمام أبى الحسين مسلم بن الحجاج فى مقدمة ((الصحيح)) حيث قال: ((وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ مُنْتَحِلِي الْحَدِيثِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا فِي تَصْحِيحِ الأَسَانِيدِ وَتَسْقِيمِهَا بِقَوْلٍ، لَوْ ضَرَبْنَا عَنْ حِكَايَتِهِ وَذِكْرِ فَسَادِهِ صَفْحًا، لَكَانَ رَأْيًا مَتِينًا وَمَذْهَبًا صَحِيحًا، إِذِ الإِعْرَاضُ عَنِ الْقَوْلِ الْمُطَّرَحِ أَحْرَى لإِمَاتَتِهِ، وَإِخْمَالِ ذِكْرِ قَائِلِهِ، وَأَجْدَرُ أَنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلْجُهَّالِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّا لَمَّا تَخَوَّفْنَا مِنْ شُرُورِ الْعَوَاقِبِ، وَاغْتِرَارِ الْجَهَلَةِ بِمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، وَإِسْرَاعِهِمْ إِلَى اعْتِقَادِ خَطَإِ الْمُخْطِئِينَ، وَالأَقْوَالِ السَّاقِطَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، رَأَيْنَا الْكَشْفَ عَنْ فَسَادِ قَوْلِهِ، وَرَدَّ مَقَالَتِهِ بِقَدْرِ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الرَّدِّ أَجْدَى عَلَى الأَنَامِ وَأَحْمَدَ لِلْعَاقِبَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ)).
وهذا حين الشروع فى ذكر الأمثلة على ما تختلف فيه الأحكام، باختلاف القرائن المحيطة بأحاديث الرواة المتكلم فيهم.
ولنبدأ من ذلك بـ ((قرَّة بن عبد الرحمن بن حيوئيل أبو محمد المعافرى)).فنقول والله المستعان:
أخرج الترمذى (700) قال: حدثنا إسحق بن موسى الأنصاري ثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًاً)).
وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا أبو عاصم وأبو المغيرة عن الأوزاعي بهذا الإسناد نحوه.
وأخرجه كذلك أحمد (2/ 237،329)، والعقيلى ((الضعفاء الكبير)) (3/ 485)، وأبو يعلى (10/ 378/5974)، وابن حبان (3498) وصحَّحه، والبيهقى ((السنن الكبرى)) (4/ 237)، وابن عبد البر ((التمهيد)) (20/ 23)، وابن عبد الغنى البغدادى ((التقييد)) (ص208) من طرق عن الأوزاعى عن قرَّة بن عبد الرحمن عن الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة مرفوعاً به.
قال أبو عيسى الترمذى: ((هذا حديث حسن غريب)).
وقال أبو جعفر العقيلى: ((لا يتابع قرَّة عليه، وهو يروى من غير هذا الوجه بإسناد أصلح من هذا)).
قلت: أما أبو عيسى، فقد أراد بالحسن تعدد مخارج الحديث، وبالغرابة تفرد قرة بن عبد الرحمن بهذا الوجه عن الزهرى. وكلام أبى جعفر العقيلى من أوضح الأدلة على إرادته هذا المعنى. فهذا الحديث عند أبى عيسى حديث يُروى من غير وجهٍ نحوه، ولكنه بهذا الإسناد عن الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة، لم يروه عنه غير قرَّة بن عبد الرحمن المعافرى.
وأما أبو جعفر، فلعلَّه أراد إسناداً ليس للزهرى ولا لقرَّة فيه ذكر، ولم أقف عليه مع شدَّة التحرى لطلبه.
فإن قيل: فقد أخرجه الطبرانى فى ((الأوسط)) (1/ 54/149)، وابن عدى ((الكامل)) (6/ 314) كلاهما من طريق مسلمة بن على الخشنى عن محمد بن الوليد الزبيدى عن الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة مرفوعاً بمثله.
¥