عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي "، فقال
البخاري: يعني أصحاب الحديث. و قال في " صحيحه " و قد علق الحديث و جعله
بابا: " و هم أهل العلم " و لا منافاة بينه و بين ما قبله كما هو ظاهر، لأن
أهل العلم هم أهل الحديث، و كلما كان المرء أعلم بالحديث كان أعلم في العلم
ممن هو دونه في الحديث كما لا يخفى. و قال في كتابه " خلق أفعال العباد "
(ص 77 - طبع الهند) و قد ذكر بسنده حديث أبي سعيد الخدري في قوله تعالى
(و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) قال البخاري:
" هم الطائفة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فذكر الحديث.
و قد يستغرب بعض الناس تفسير هؤلاء الأئمة للطائفة الظاهرة و الفرقة الناجية
بأنهم أهل الحديث، و لا غرابة في ذلك إذا تذكرنا ما يأتي.
أولا: أن أهل الحديث هم بحكم اختصاصهم في دراسة السنة و ما يتعلق من معرفة
تراجم الرواة و علل الحديث و طرقه أعلم الناس قاطبة بسنة نبيهم صلى الله عليه
وسلم و هديه و أخلاقه و غزواته و ما يتصل به صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: أن الأمة قد انقسمت إلى فرق و مذاهب لم تكن في القرن الأول، و لكل
مذهب أصوله و فروعه، و أحاديثه التي يستدل بها و يعتمد عليها. و أن المتمذهب
بواحد منها يتعصب له و يتمسك بكل ما فيه، دون أن يلتفت إلى المذاهب الأخرى
و ينظر لعله يجد فيها من الأحاديث ما لا يجده في مذهبه الذي قلده، فإن من
الثابت لدى أهل العلم أن في كل مذهب من السنة و الأحاديث ما لا يوجد في المذهب
الآخر، فالمتمسك بالمذهب الواحد يضل و لابد عن قسم عظيم من السنة المحفوظة لدى
المذاهب الأخرى، و ليس على هذا أهل الحديث فإنهم يأخذون بكل حديث صح إسناده،
في أي مذهب كان، و من أي طائفة كان راويه ما دام أنه مسلم ثقة، حتى لو كان
شيعيا أو قدريا أو خارجيا فضلا عن أن يكون حنفيا أو مالكيا أو غير ذلك، و قد
صرح بهذا الإمام الشافعي رضي الله عنه حين خاطب الإمام أحمد بقوله:
" أنتم أعلم بالحديث مني، فإذا جاءكم الحديث صحيحا فأخبرني به حتى أذهب إليه
سواء كان حجازيا أم كوفيا أم مصريا " فأهل الحديث - حشرنا الله معهم - لا
يتعصبون لقول شخص معين مهما علا و سما حاشا محمد صلى الله عليه وسلم، بخلاف
غيرهم ممن لا ينتمي إلى الحديث و العمل به، فإنهم يتعصبون لأقوال أئمتهم -
و قد نهوهم عن ذلك - كما يتعصب أهل الحديث لأقوال نبيهم!! فلا عجب بعد هذا
البيان أن يكون أهل الحديث. هم الطائفة الظاهرة و الفرقة الناجية. بل و الأمة
الوسط، الشهداء على الخلق.
و يعجبني بهذا الصدد قول الخطيب البغدادي في مقدمة كتابه " شرف أصحاب الحديث "
انتصارا لهم و ردا على من خالفهم:
" و لو أن صاحب الرأي المذموم شغل بما ينفعه من العلوم، و طلب سنن رسول رب
العالمين، و اقتفى آثار الفقهاء و المحدثين، لوجد في ذلك ما يغنيه عن سواه،
و اكتفي بالأثر عن رأيه الذي يراه، لأن الحديث يشتمل على معرفة أصول التوحيد
و بيان ما جاء من وجوه الوعد و الوعيد، و صفات رب العالمين - تعالى عن مقالات
الملحدين - و الإخبار عن صفة الجنة و النار، و ما أعد الله فيها للمتقين
و الفجار، و ما خلق الله في الأرضين و السماوات و صنوف العجائب و عظيم الآيات
و ذكر الملائكة المقربين، و نعت الصافين و المسبحين.
و في الحديث قصص الأنبياء و أخبار الزهاد و الأولياء و مواعظ البلغاء، و كلام
الفقهاء، و سير ملوك العرب و العجم، و أقاصيص المتقدمين من الأمم، و شرح
مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم، و سراياه، و جمل أحكامه و قضاياه، و خطبه
و عظاته، و أعلامه و معجزاته، و عدة أزواجه و أولاده، و أصهاره و أصحابه،
و ذكر فضائلهم و مآثرهم، و شرح أخبارهم و مناقبهم، و مبلغ أعمارهم، و بيان
أنسابهم.
و فيه تفسير القرآن العظيم، و ما فيه من النبأ و الذكر الحكيم، و أقاويل
الصحابة في الأحكام المحفوظة عنهم، و تسمية من ذهب إلى قول كل واحد منهم،
من الأئمة الخالفين، و الفقهاء المجتهدين.
و قد جعل الله أهله أركان الشريعة، و هدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله
في خليقته، و الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم و أمته، و المجتهدون في
¥