تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

هكذا أورد هذه الحكاية برمتها الحافظ أبو الفداء، ولم يعلِّق عليها بشئٍ!، فأوهم صنيعُه ذا جماهرَ من الوعاظ والخطباء، ممن يعتمدون على ((تفسيره))، ويحتجون بأقواله، أوهمهم صدقَ هذه الحكاية!، فتناقلوها فى مجالس الترغيب والترهيب، وعلى منابر الوعظ والتذكير، وفى أهازيجهم وأناشيدهم، ترغيباً فى الجهاد والمرابطة، ولعلَّ أكثرهم لم ينظر، ولو لمرة واحدة، فى مصدر الحكاية ومخرجها، اعتماداً على نقل الحافظ إيَّاها، وسكوته عنها، ولم تتمعر وجوهُهُم غيرةً على مقامات الرفعة ومراتب الإحسان، وأفضلها ملازمة الحرمين الشريفين: مكة وطيبة، زادهما الله تشريفاً وتكريماً ومهابةً وعزاً.

وكذلك أوردها بعض من ترجم للإمام الحجة الفقيه المجاهد عبد الله بن المبارك المروزى، ومنهم الحافظ الذهبى فى ((سير أعلام النبلاء)) (8/ 412)، والإمام أبو القاسم الرافعى القزوينى فى ((التدوين فى أخبار قزوين)) (3/ 236).

ولا يُحصى من استروح إلى هذه الحكاية، فأودعها عن رضاً واقتناعً كتابَه، أو صدَّر بها مصنفَه. وجميعهم، لعله لم يتسائل ما إسنادها، وما صحتُه، وما صحتُها؟!، ومشَّاها على ما بها من وهنٍ واقتراء وتجنىً على الإمامين السيدين: الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر الإمام القدوة الثبت أبو علي التميمي اليربوعي الخراساني المجاور بحرم الله المعظَّم، وعبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلى المروزى علم المجاهدين شيخ الإسلام.

فما دلائل وهن هذه الحكاية، وهل يجوز الجزم بنسبة هذه الأبيات المفتريات إلى الإمام السيد الجليل ابن المبارك، وما حكاية هذه الأشعار التى حُشى بها ديوان الشعر المنسوب إليه، وما موقف أهل التحقيق من هذا الديوان؟. هذا ما نرجو إيضاحه فى هذا البيان ((طعنُ القَنَا فى صدر مفترى: يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْنَا)).

أقول والله المستعان: أخرج الحافظ أبو القاسم بنُ عساكر فى ((تاريخ دمشق)) (32/ 449) من طريقين عن أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني قال أملى علينا عبد الله بن محمد بن سعيد بن يحيى الكريزى القاضي قال أملاه علىَّ محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال أملى عليَّ عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس، وودعته للخروج، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة، أو سنة سبع وسبعين ومائة:

يا عابدَ الحرمين لو أبصرتَْنا ... لعلمتَ أنَّكَ في العبادةِ تلعبُ

مَنْ كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه ... فنحورنُا بدمائِنا تَتَخْضَبُ

أوكان يتعبُ خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ

ريحُ العبيرٍ لكم ونحنُ عبيرُنا ... رَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ

ولقد أتانا من مقالِ نبيِنا ... قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكذبُ

لا يستوي غبارُ أهلِ الله في ... أنفِ أمرئٍ ودخانُ نارٍ تَلهبُ

هذا كتابُ الله ينطقُ بيننا ... ليسَ الشهيدُ بميتٍ لا يكذبُ قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه، وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟، قال: قلت: نعم، قال: فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا، وأملى عليَّ الفضيل بن عياض قال حدثنا منصور عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله؟، فقال: ((هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟) فقال: يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت ثواب المجاهدين في سبيل الله، أمَا علمت أن المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات)).

قلت: وهذا إسناد واهٍ بمرة. والمتهم به واحد من اثنين:

(الأول) محمد ـ وقد يقال أحمد ـ ابن إبراهيم بن أبي سكينة، لا يشبه حديثه حديث أثبات أصحاب عبد الله بن المبارك.

قال الأمير أبو نصر بن ماكولا ((الإكمال)) (4/ 317): ((محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة أبو عبد الله. روى عن: فضيل بن عياض، ومحمد بن الحسن الشيباني، ومحمد بن سلمة الحراني. روى عنه: يحيى بن علي بن محمد بن هاشم، وعبد الله بن سعيد الكريزي الرقي، والفضل بن محمد العطار الأنطاكي)).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير