ولعل أحمد إنما استنكره لمخالفته الأحاديث في أن القارن يطوف طوافاً واحداً.
(ثم) قال البرديجي بعد ذلك: ((فأما أحاديث قتادة الذي يرويها الشيوخ مثل حماد بن سلمة، وهمام، وأبان، والأوزاعي، ينظر في الحديث، فإن كان الحديث يحفظ من غير طريقهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو عن أنس بن مالك من وجه آخر لم يدفع، وإن كان لا يعرف عن أحد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا من طريق عن أنس إلا من رواية هذا الذي ذكرت لك، كان منكراً)).
وقال أيضاً: ((إذا روى الثقة من طريق صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حديثاً لا يصاب إلا عند الرجل الواحد – لم يضره أن لا يرويه غيره إذا كان كتن الحديث معروفاً، ولا يكون منكراً ولا ممولاً)).
وقال في حديث رواه عمرو بن عاصم عن همام عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إني أصبت حداً فاقة على .. الحديث)): ((هذا عندي حديث منكر، وهو عندي وهم من عمرو بن عاصم)).
ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال: ((هذا حديث باطل بهذا الإسناد)).
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من هذا الوجه، وخرج مسلم معناه أيضاً من حديث أمامة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهذا شاهد لحديث أنس.
ولعل أبا حاتم والبرديجي إنما أنكر الحديث لأنه عمرو بن عاصم ليس هو عندهما في محل من يحتمل تفرده بمثل هذا الإسناد، والله أعلم.
وقال إسحاق بن هانئ: قال لي أبو عبد الله [يعني أحمد] قال لي يحيى بن سعيد: لا أعلم عبيد الله يعني ابن عمر أخطأ إلا في حديث واحد لنافع ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام .. )) الحديث، قال أبو عبد الله: ((فأنكره يحيى بن سعيد عليه!)).
قال أبو عبد الله فقال لي يحيى بن سعيد: ((فوجدته قد حدث به العمري الصغير عن نافع عن ابن عمر مثله)).
قال أبو عبد الله:: ((لم يسمعه إلا من عبيد الله، فلما بلغه عن العمري صححه)).
وهذا الكلام يدل على أن النكارة عند يحيى القطان لا تزول إلا بمعرفة الحديث من وجه آخر.
وكلام أحمد قريب من ذلك قال عبد الله: سألت أبي عن حسين بن علي الذي يروي حديث المواقيت؟ فقال: ((هو أخو أبي جعفر محمد بن علي، وحديثه الذي روى في المواقيت ليس بمنكر، لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره)).
وقال أحمد في بُريد بن عبد الله بن أبي بردة: ((يروي أحاديث مناكير!)).
وقال [أحمد] في محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي وهو المنفرد برواية حديث: ((الأعمال بالنيات)): ((في حديثه شئ، يروي أحاديث مناكير أو قال منكرة؟)).
وقال في زيد بن أبي أنيسة: ((إن حديثه مقارب، وإن فيها لبعض النكارة، قال: وهو على ذلك حسن الحديث)).
قال الأثرم قلت لأحمد: ((إن له أحاديث إن لم تكن مناكير فهي غرائب! قال: نعم)).
وهؤلاء الثلاثة متفق على الاحتجاج بحديثهم في الصحيح، وقد الستنكر أحمد ما تفردوا به.
وكذلك قال عمرو بن الحارث: ((له مناكير))، وفي الحسين بن واقد، وخالد بن مخلد، وفي [في] جماعة خرج لهم في الصحيح بعض ما يتفردون به)).
وأما تصرف الشيخين والأكثرين فيدل على خلاف هذا، وأن ما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه – وليس له علة – فليس بمنكرة.
وقد قال مسلم في أول كتابه: ((حكم أهل العلم والذي تعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث، أن يكون قد شارك الثقات من أهل الحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا واجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته)).
((فأما من نراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديث وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على اتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح الذي عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس، والله أعلم.
[فصرح بأن الثقة إذا أمعن في موافقة الثقات في حديثهم، ثم تفرد عنهم بحديث قبل ما تفرد به، وحكاه عن أهل العلم].
وقد ذكرنا فيما تقدم قول الشافعي في الشاذ، وأنه قال: ((ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، إنما الشاذ أن يروي حديثاً يخالف الناس، وكذا قال أبو بكر الأثرم.
وحكى أيو يعلى الخليلي هذا القول على الشافعي وجماعة من أهل الحجاز، ثم قال: ((الذي عليه حفاظ الحديث: أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد بذلك شيخ ثقة أو غير ثقة، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به)).
وكذلك ذكر الحاكم: أن الشاذ هو الحديث الذي ((يتفرد به ثقة من الثقات وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة))، ولم يوقف له على علة.
ولكن كلام الخليل في تفرد الشيوخ، والشيوخ في اصطلاح أهل ها العلم عبارة عمن دون الأئمة والحفاظ، وقد يكون فيهم الثقة وغيره.
فأما ما أنفرد به الأئمة والحفاظ فقد سماه الخليلي فرداً، وذكر أن أفراد الحفاظ المشهورين الثقات، أو أفراد إمام من الحفاظ الأئمة صحيح متفق عليه، ومثله بحديث مالك في المغفر، [فتلخص من هذا أن النكارة لا تزول عند يحيى القطان والإمام أحمد والبرديجي وغيرهم من المتقدمين إلا بالمتابعة وكذلك الشذوذ، كما حكاه الحاكم.
وأما الشافعي وغيره فيرون أن ما تفرد به ثقة مقبول الرواية ولم يخالفه غيره فليس بشاذ، وتصرف الشيخين يدل على مثل هذا المعنى.
وفرق الخليلي بين ما ينفرد به شيخ من الشيوخ الثقات، وبين ما ينفرد به إمام أو حافظ. فما انفرد به إمام أو حافظ قبل واحتج به، بخلاف ما تفرد به شيخ من الشيوخ. وحكى ذلك عن حفاظ الحديث والله أعلم].
¥