ماكان يفعله من زيارته لشهداء البقيع وإقرائهم السلام وسن ذلك لأمته هو تكليم لأناس يسمعون وليس فعله صلى الله عليه وسلم عبثا.
ثم إن حديث تكليمه لقتلى المشركين هو دليل استند عليه العلماء وهم:
- الطبري في تفسيره:20/ 459
((وقوله (إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) يقول تعالى ذكره: كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله فيهديهم به إلى سبيل الرشاد، فكذلك لا يقدر أن ينفع بمواعظ الله وبيان حججه من كان ميت القلب من أحياء عباده، عن معرفة الله، وفهم كتابه وتنزيله، وواضح حججه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) كذلك الكافر لا يسمع، ولا ينتفع بما يسمع.))
- ابن كثير في التفسير: ((يقول تعالى: كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها، ولا تبلغ (2) كلامَك الصم الذين لا يسمعون، وهم مع ذلك مُدْبِرُون عنك، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق، وردهم عن ضلالتهم، بل ذلك إلى الله تعالى، فإنه بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء، ويهدي مَنْ يشاء، ويضل مَنْ يشاء، وليس ذلك لأحد سواه؛ ولهذا قال: {إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} أي: خاضعون مستجيبون مطيعون، فأولئك هم الذين يستمعون (3) الحق ويتبعونه، وهذا حال المؤمنين، والأول مَثَلُ الكافرين، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36].
وقد استدلت أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، بهذه الآية: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قَلِيب بدر (4)، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم، حتى قال له عمر: يا رسول الله، ما تخاطب من قوم قد جَيَّفوا؟ فقال: "والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون". وتأولته عائشة على أنه قال: "إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق" (5).
وقال قتادة: أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعًا وتوبيخًا ونقمة.
والصحيح عند العلماء رواية ابن عمر، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححًا [له] (1)، عن ابن عباس مرفوعًا: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم، كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام" (2).
[وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له، إذا انصرفوا عنه، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر، فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده، إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم". (2) الاستذكار لابن عبد البر من طريق بشر بن بكير، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس، مرفوعا. ولفظه: "ما من أحد مر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام".
وروي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: إذا مر رجل بقبر يعرفه فسلم عليه، رد عليه السلام.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن رجل من آل عاصم الجَحْدَرِي قال: رأيت عاصمًا الجحدري في منامي بعد موته بسنتين، فقلت: أليس قد متّ؟ قال: بلى، قلت: فأين أنت؟ قال: أنا -والله -في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني، فنتلقى أخباركم. قال: قلت: أجسامكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات! قد بليت الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواح، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس، قال: قلت: فكيف ذلك دون الأيام
¥