تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم أسند الخطيب قصة رجل خراساني كان يجلس عند يزيد بن هارون فيكتب الكلام ولا يكتب الأسناد، فلما لاموه على ذلك قال: ((إنكان الذي كتبه الخراساني من أخبار الزهد والرقائق وحكايات الترغيب والمواعظ فلابأس بما فعل، وإن كان من أحاديث الأحكام وله تعلق بالحلاال والحرام فقد أخطأ في إسقاط إسناده؛ لأنها هي الطريق إلى تثبته، فكان يلزمه السؤال عن أمره والبحث عن صحته)).

وفي هذا السياق أشير إلى قضية مهمة، ربما غفل عنها كثيرون وهي أن لعلماء كل علم طريقتهم الخاصة في نقد علمهم، وفي الفحص عن صحة منقولهم ومعقولهم. ومن الخطأالفادح أن نخلط بين معايير النقد المختلفة بين كل علم وآخر؛ لأن ذلك سيؤدي إلى هدم تلك العلوم!!

وأضرب على ذلك مثلا:

لو جئنا إلى الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام، بل عموم دواوين الشعراء، خاصة في عصر الاحتجاج اللغوي، وأردنا أن نطبق عليها منهج المحدثين في نقد السنة = هل سنزيد إلا أن نهدم لغة العرب، بأعظم مما أراد أن يهدمها به طه حسين!!!

ذلك أن لأئمة اللغة معاييرهم الصحيحة الكافية لنقد علمهم، ولهم طرائقهم لفحص المنقول من اللغة. وقد بذلوا في ذلك جهودا عظيمة، أدوا بها الأمانة العظمى الملقاة على عواتقهم، خدمة للغة القرآن والسنة.

وفي هذا المجال أذكر بضرورة تعظيم أئمة كل علم في علمهم، واحترام تخصصات أصحاب التخصصات، فلا نزاحمهم ما دمنا لسنا من أصحاب ذلك العلم. خاصة أولئك الأعلام، من علماء علوم الإسلام على اختلاف فنونها.

أقصد من ذلك كله أن أبين: أن منهج المحدثين لإن كان هو المنهج الوحيد الذي يصح به نقد المنقول المتعلق بالدين، فإنه لا يلزم أن يصح في نقد بقية العلوم وإن شابهته من جهة إبراز أسانيد لبعض منقولاتها. فليس كل إسناد نراه يعني أنه وسيلة نقد ذلك المنقول بتطبيق منهج المحدثين الذي ينقلون به أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإسناد كان سمة من سمات علوم الإسلام كلها، فإبرازه لم يكن دائما لأجل الاعتماد الكلي عليه في نقد ذلك المنقول. وبناء على ماسبق ذكره، من أن المحدثين فرقوا بين منهج نقد السنة ومنهج نقد الأخبار، فإني أجد هذه مناسبة حسنة للتأكيد على معنى معين، يعين على معرفة الصواب في هذه المسألة المنهجية، وهو أن منهج المحدثين في نقد السنة تميز بشدة الاحتياط والمبالغة في التحري والريبة من كل شيء، ولولا أن عناية الأمة في تلك الحقبة بالسنة من جهة نقلها وتعلمها وتعليمها وحفظها وكتابتها كانت عناية عظيمة تفوق الوصف، حيث كانت هي همهم الأكبر وشغلهم الشاغل = لكان ذلك المتشدد المبالغ المرتاب سببا لإخراج شيء من صحيح السنة عنها. لكن تلك العناية البالغة بالنقل، وفرت للمحدثين فرصة ذلك التشديد في النقد، دون أن يضيع ذلك شيئا من السنة ... وتلك حكمة بالغة!!

ومن هذا الملحظ تعلم ان هذا المنهج المتشدد على غير السنة فيه جور على ذلك العلم المنتقد به؛ لإن التثبت من صحة المنقول فيه لايحتاج إلى كل ذلك التشديد في النقد، ولن نجد من عناية الأمة بمنقول ذلك العلم مايكون رصيدا كبيرا صالحا لذلك التشديد، دون أن يؤدي ذلك إلى تضييع بعض الثابت من ذلك المنقول.

وأقصد من ذلك كله بيان أن التخفف من نقد المنقولات من غير السنة لا يعني أننا سنثبت بذلك غير الثابت، ولكن يعني أننا سنضع كل منقول في ميزانه الكافي لتمييز ثابته من غير الثابت منه.

ولكي أنزل من هذا التنظير الجاف، إلى التمثيل الحي القريب إلى كل ذهن؛ أقول: هب أنك سمعت أحد جلة العلماء ممن تعظمهم النفوس تقوى وعلما يحكي لك خبرا عن أحد أشهر شيوخ شيوخه وأعلمهم، يتضمن هذا الخبر أمرا غير مستنكر عن علم ذلك الشيخ، ويقول في ذكره لهذا الخبر:سمعت جماعة من شيوخي يحكونه عن ذلك الشيخ = هل ستشك في صحة هذا الخبر، بحجة الجهالة بحال شيوخ هذا العالم الذي سمعته؟!

وزيادة في التقريب: لو سمعت الشيخ ابن باز (عليه رحمة الله) يقول: سمعت جماعة منشيوخي يقولون أن العالم الفلاني كان كذا وكذا، هل سنجد في نفوسنا ريبة من ذلك الخبر؟!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير