والمثال الواقعي لذلك: أنني كنت من سنوات كثيرة قد درست الأخبار الواردة في قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه مع مالك بن نويرة في حروب الردة، وهي قصة شهيرة، نسج عليها الأفاكون وأذنابهم من المستشرقين قصصا شنيعة. فوجدت أن أحد الباحثين رد القصة بالكلية، وخرج بنتيجة وهي أن مالك بن نويرة كان مرتدا كافرا، وأنه قتل بسيف الشرع، مع أن مالك بن نويرة رضي الله عنه لم يتخلف أحد عن ذكره في الصحابة، وهذا هو الظاهر من شأنه.
وبد دراسة أسانيد الخبر، تبين لي أنه لا يصح منها إلا إسناد واحد، أخرجه خليفة بن خياط في تاريخه (105)، يقول فيه ابن عمر رضي الله عنهما: ((قدم أبو قتادة على أبي بكر، فأخبره بمقتل مالك وأصحابه. فجزع من ذلك جزعا شديدا، فكتب أبو بكر إلى خالد، فقدم عليه. فقال أبو بكر: هل يزيد خالد على أن يكون تأول فأخطأ؟ ورد أبو بكر خالدا، وودى مالكا بن نويرة، ورد السبي والمال)).
فهذا الخبر على وجازته: أثبت أصل القصة، ووضع كل أمر في نصابه، واعتذر لخالد رضي الله عنه، ونفى تلك التهمة القبيحة عن مالك بن نويرة بدفع أبي بكر ديته إلى أوليائه،
يبقى أن في بقية الأخبار تفاصيل أخرى، لا يمكن أن نفهم الخبر السابق بغير الإطلاع عليها! فما العمل تجاهها؟
فالعمل هو أن نأخذ من تلك الأخبار ما يوافق هذا الخبر الثابت (من جهته)، وما لا يقدح في عدالة الصحابة الثابتة بالنصوص القطعية (من جهة أخرى)؛ لأنها أخبار لا تثبت أسانيدها أولا، وثانيا لأن ما عارض تلك الثوابت سيعد منها منكرا، ليس من العدل والإنصاف أن نجعله مساويا لتلك الثوابت، فضلا عن أن نعتمده، فنكون قد قدمنا ما حقه الإبعاد، ونستحق بذلك (عياذا بالله) أن نعد من أهل الهوى والظلم في الأحكام،
فإذا جئنا لأخبار تاريخية بعد ذلك، مما وقع في القرن الهجري الثاني أو الثالث: فالأصل فيها إمرارها والاستفادة منها دون نقد حديثي محتاط؛ إلا إذا أراد أحد أن يصدر حكما دينيا على شخص من الأشخاص له حرمة دينية، وهو أن يكون مسلما (كبعض الملوك والسلاطين) = فإننا لا نقبل ذلك إلا بنقد يثبت بمثله الحكم الديني. هذا إن كان لمثل هذا البحث ثمرة علمية، أما إن لم يكن له ثمرة، أو كان له ثمرة خبيثة؛ فينهى عن مثل هذا البحث وعن إضاعة الوقت فيه.
وإذا جئنا إلى سير العلماء وأخبارهم، فالضابط الكلي سائر على تراجمهم. فإن ما يرد في تراجمهم ما إذا كان يصدر عنه حكم ديني، وضعناه في معياره المحتاط. وأوضح صور هذا الحكم الديني: عبارة الجرح والتعديل في رواة السنة. وإن كان بخلاف ذلك، كقصة البخاري السابقة، أو كعبارات في الوعظ والحكمة، أو كذكر مؤلفاتهم أو وصف مكتباتهم ونحو ذلك من الأخبار = فهذه لا تنقد بذلك النقد المحتاط، ولكن تنقد بمعايير أخرى، تراعى المعقول وغير المعقول، والثقة بناقل الخبر (أي المصدر ومؤلفه)، وغير ذلك من القرائن المحتفة بكل خبر منها، وتراعى المصلحة الحاصلة من نقده أيضا.
هذا ملخص ما ترجح لدي في شأن نقد القصص والأخبار التاريخية.
والله أعلم.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
الشريف حاتم بن عارف العوني
9/ 1/1423 هـ
في جواب على سؤال وجه إليه من إسلام اليوم هذا نصه.
ـ[يعقوب بن مطر العتيبي]ــــــــ[12 - 04 - 02, 06:22 م]ـ
هذه المسألة من المسائل التي استُشكِلَت بِأَخَرَة، وكانت عند الأئمة الأسلاف غيرَ مشكلة .. ، وتَبِعَ إثارةَ هذه المسألة: تأصيلٌ لهذه الفكرة وهي (تطبيق منهج المحدثين في النقد بحذافيره) على الروايات التاريخيّة أيّاً كان موضوعها أو أهمّيتها ...
لقد نَتَجَ عن هذه الفكرة آثارٌ سلبية ألقت بظلالها على التمايز المنهجي المفترض ما بين منهج المحدثين في دراسة الحديث ونقده متناً وسنداً ... وما بين منهج المحدثين أنفسِهِم في نقد الروايات التاريخية ..
ألا إنّ هذا الموضوع الذي أثاره أخونا عبد الله ... موضوعٌ مترامي الأطراف، لايمكن أن يُحَلّ أو يُبحثَ من جميع جوانبه في مثل هذه العُجالة .. ولكن أُشيرُ إلى دراسةٍ مفيدةٍ ـ وإن كانت غيرَ موسّعَةٍ ـ في هذا الموضوع للشيخ الدكتور عبد العزيز الحميدي في مقدّمة كتابه "التاريخ الإسلامي" 0
¥