أقولُ: هذا شاهدٌ موضوعٌ؛ بِشْر بن الحسين هو أبو محمَّد الأصبهانيُّ، قال فيه البُخاريُّ: " فيه نظرٌ "، وقال ابنُ أبي حاتمٍ: " سُئِلَ أبي عن بِشْر بن الحسين الأصبهانيِّ؟، فقال: لا أعرفُهُ، فقيل له: إنَّه ببغداد قومٌ يُحدِّثونَ عن محمَّد بن زياد ابن زبار، عن بِشْر بن الحسين، عنِ الزُّبير بن عَدِيٍّ، عن أنسٍ نحو عشرينَ حديثاً مُسندةً، فقال: هي أحاديثُ موضوعةٌ، ليس يُعْرفُ للزُّبيرِ عن أنسٍ عنِ النَّبيِّ ? إلاَّ أربعة أحاديث، أو خمسة أحاديث "، وقال ابنُ حِبَّانَ: " يروي عن الزُّبير بن عَدِيٍّ بنُسخةٍ موضوعةٍ، ما لكثيرِ حديثٍ منها أصلٌ، يرويها عنِ الزُّبيرِ، عن أنسٍ شبيهاً بمائةٍ وخمسينَ حديثاً، مسانيد كلّها، وإنَّها سمع الزُّبيرُ من أنسٍ حديثاً واحداً: (لا يأتي عليكم زمانٌ إلاَّ والَّذي بعده شرُّ منه) "، وضعَّفه ابنُ عَدِيٍّ، وذكره العُقيليُّ في الضُّعفاءِ.
والعجبُ مِنَ الإمامِ النَّوويِّ حيثُ ذكرَ هذا الحديثَ في كتابِهِ " الأذكارِ " (ص:244) ساكتاً عليه، ومُسْتشهداً به، مع أنَّه موضوعٌ، ولم يَعْزُهُ لأحدٍ!!، وهذا من تَسَاهُلِهِ رحمهُ اللَّهُ، وعفا عنه.
الشَّاهدُ الثَّالثُ: مرسلُ زيدِ بنِ أَسْلم _ من التَّابعينَ _: أخرجه أبو عمرٍو الدَّانيُّ _ كما في " النَّشر في القراءاتِ العشر " (2/ 333 _ 334) _؛ قال: أخبرني أبو الحسن علي بن محمَّد الربعيُّ، حدَّثنا علي بن مسرور، حدَّثنا أحمد بن أبي سليمان، حدَّثنا سحنون بن سعيد، حدَّثنا عبد اللَّه بن وهب، أخبرني ابنُ لَهِيعَةَ، عن هشام بن سعدٍ، عن زيد بن أسلم؛ أنَّ رسولَ اللَّهِ ? سُئِلَ: أَيُّ الأعمالِ أفضلُ؟، فقال: " الحَالُّ المُرْتَحِلُ ". قال ابنُ وهبٍ: وسمعتُ أبا عفَّانٍ المدنيَّ يقولُ ذلك عن رسولِ اللَّهِ ?، يقولُ: هذا خاتمُ القُرآنِ وفاتحه.
أقولُ: هذا إسنادٌ مرسلٌ ضعيفٌ؛ هشامُ بنُ سعدٍ هو: المدنيُّ، وهو صدوقٌ فيه لينٌ وضعفٌ، لكنَّه من أَثْبَتِ النَّاسِ في زيدِ بنِ أَسْلَمَ كما قال أبو داودَ، وابنُ لَهِيعَةَ وإنْ كان سَاءَ حفظُهُ وتغيَّرَ، إلاَّ أنَّ الرَّاوي عنه _ هنا _ هو عبدُ اللَّهِ بنُ وهبٍ، وهو ممَّنْ سمعَ منه قديماً، وبقيَّةُ رجالِ السَّندِ ثقاتٌ، من علماءِ المالكيَّةِ، والحديثُ مُعَلٌّ بالإرسَالِ، وهو لا يتقوَّى بمرسلِ زُرارة بن أوفى؛ لنَكَارتِهِ، ولأنَّ زيد بن أسلم يشتركُ مع زُرارة في بعضِ شيوخِهِ، فيُحْتَمَلُ أنَّه أَخَذَ الحديثَ عن نفسِ الشَّيخِ.
وأمَّا روايةُ أبي عفَّان المدنيِّ _ وهي الشَّاهدُ الرَّابعُ _ فهي مُعْضَلَةٌ، وضعيفةٌ جِدّاً؛ فأبو عفَّان المدنيُّ اسمه: عثمانُ بنُ خالدٍ الأمويُّ العثمانيُّ، وهو متروكُ الحديثِ، وقد أَعْضَلَهُ عنِ رسولِ اللَّهِ ?.
الشَّاهدُ الخامسُ: روايةٌ مُعْضَلةٌ للحديثِ: أخرجها عبدُ اللَّهِ بنُ المباركِ في " الزُّهد " (رقم:800) قال: أخبرنا إسماعيل بن رافع، عن رجُلٍ من الإسكندريَّةِ قال: قيل يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ العملِ أفضلُ؟، قال: " الحَالُّ المُرْتَحِلُ "، قال: قيل له: ما الحَالَّ المُرْتَحِلُ؟، قال: " الخَاتِمُ المُفْتَتِحُ ".
أقولُ: هذه روايةٌ معلولةٌ من عدِّةِ وجوهٍ:
الأوَّل: إسماعيلُ بن رافعٍ هو الأنصاريُّ، وهو ضعيفٌ مُنْكرُ الحديثِ.
الثَّاني: جهالةُ الرَّجُلِ الإسكندرانيِّ.
الثَّالثُ: الإعضالُ.
أقولُ: وقَدِ ادَّعَى الحافظُ أبو شَامَةَ _ كما في " النَّشر في القراءات العشر " (2/ 333) _ أنَّ تفسيرَ الحَالِّ والمُرْتَحِلِ الوارد في الحديثِ مُدْرَجٌ من بعضِ الرُّواةِ، ولَمْ أَرَ مَنْ سَبَقَهُ إلى ذلك، وقد أَتَيْتُ على رواياتِ الحديثِ _ كلِّها _ فلم أظفر بما يُشيرُ إلى ذلك، وقد ردَّ ابنُ الجَزَريِّ _ رحمهُ اللَّهُ _ هذه الدَّعْوَى بقولِهِ: " فلا نعلمُ أحداً صرَّحَ بإدراجِهِ في الحديثِ، بلِ الرُّواةُ لهذا الحديثِ بين مَنْ صرَّحَ بأنَّهُ صلَّى اللَّهُ تعالى عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ فسَّرَهُ به _ كما في أكثرِ الرِّواياتِ _، وبينَ مَنِ اقْتَصَرَ على روايةِ بعضِ الحديثِ فلمْ يذكرْ تفسيرَهُ، ولاَ مُنافَاةَ بين الرِّوايتينِ، فَتُحْمَلُ روايةُ تفسيرِهِ على روايةِ مَنْ لم يُفسِّرْهُ، ويجوزُ الاقتصارُ على روايةِ بعضِ الحديثِ إذا لم يُخِلَّ بالمعنى، وهذا ممَّا لا خِلافَ عندهم فيه، ولاَ يلزمُ الإدراجَ في الرِّوايةِ الأخرى ".
حاصلُ الأمرِ: أنَّ الحديثَ واهٍ جدّاً، وطرقُهُ لاَ يجبرُ بعضها بعضاً، أمَّا قولُ ابنِ الجَزَريِّ في " النَّشر " (2/ 335): " فَدَلَّ ما ذكرناهُ وقدَّمناهُ منَ الرِّواياتِ والطُّرقِ والمتابعاتِ على قوَّةِ هذا الحديثِ، وتَرَقِّيهِ عن درجةِ أنْ يكونَ ضعيفاً، إذْ ذاك مِمَّا
يُقوِّي بعضُهُ بعضاً، ويُؤَيِّدُ بعضُهُ بعضاً "، فهو مردودٌ عليه بما قدَّمناهُ من تفصيلٍ وبيانٍ، وللَّهِ الحمدُ على ما وفَّقَ.