تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

و لهذا فرق العلماء بين ما يتشدد فيه من الأخبار و بين ما يتساهل فيه تبعاً لطبيعة ما يروى، على أن تطبيق قواعد نقد الحديث في التاريخ أمر نسبي تحدده طبيعة الروايات.

فإذا كان المروي متعلقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بأحد من الصحابة رضي الله عنهم، فإنه يجب التدقيق في رواته والاعتناء بنقدهم.

و يلحق بهذا ما إذا كان الأمر متعلقاً بثلب و تجريح أحد من العلماء والأئمة ممن ثبتت عدالته أو تنقصهم و تدليس حالهم على الناس.

لأن كل من ثبتت عدالته لا يقبل جرحه حتى يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه، كما قال ابن حجر في التهذيب (7/ 273).

و كذلك إذا كان الأمر يتعلق بقضية في العقيدة أو موضوع شرعي كتحليل و تحريم، فإنه لابد من التثبت من حال رواته ومعرفة نقلته، ولا يؤخذ من هذا الباب إلا من الثقات الضابطين.

أما إذا كان الخبر المروي لا يتعلق بشيء من الأحكام الشرعية – وإن كان الواجب التثبت في الكل – فإنه يتساهل فيه قياساً على ما اصطلح عليه علماء الحديث في باب التشدد في أحاديث الأحكام والتساهل في فضائل الأعمال.

ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا التساهل لا يعني الرواية عن المعروفين بالكذب و ساقطي العدالة، لأن ساقط العدالة لا يحمل عنه أصلاً، و إنما قصد العلماء بالتساهل إمرار أو قبول رواية من ضعف ضبطه بسبب الغفلة أو كثرة الغلط، أو التغّير والاختلاط، و نحو ذلك، أو عدم اتصال السند كالرواية المرسلة أو المنقطعة، و وفق هذه القاعدة جوّز بعض الفقهاء العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال والترغيب والترهيب – مع التنبيه على ضعف الحديث -.

وبناء على ذلك إذا كانت الرواية التاريخية لا تتعلق بإثبات أمر شرعي أو نفيه سواء كان لذلك صلة بالأشخاص – كالصحابة رضوان الله عليهم – أو الأحكام – كالحلال والحرام – فإن الأمر عندئذ يختلف، فيقبل في هذا الباب من الروايات الضعيفة ما يقبل في سابقه، فيستشهد بها، لأنها قد تشترك مع الروايات الصحيحة في أصل الحادثة، و ربما يُستدل بها على بعض التفصيلات و يُحاول الجمع بينها و بين الروايات الأخرى التي هي أوثق سنداً.

يقول الكافيجي – هو محمد بن سليمان بن سعد الرومي الحنفي الكافيجي (ت879هـ) له معرفة باللغة والتاريخ والتفسير وعلوم أخرى – في هذا الصدد: يجوز للمؤرخ أن يروي في تاريخه قولاً ضعيفاً في باب الترغيب و الترهيب والاعتبار مع التنبيه على ضعفه، و لكن لا يجوز له ذلك في ذات الباري عز وجل و في صفاته ولا في الأحكام، و هكذا جوز رواية الحديث الضعيف على ما ذكر من التفصيل المذكور. المختصر في علوم التاريخ (ص 326).

و يقول الدكتور أكرم ضياء العمري في دراسات تاريخية (ص 27): أما اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه تعسف كثير، و الخطر الناجم عنه كبير، لأن الروايات التاريخية التي دونها أسلافنا المؤرخون لم تُعامل معاملة الأحاديث،بل تم التساهل فيها، و إذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثل هوّة سحيقة بيننا، و بين ماضينا مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع .. لكن ذلك لا يعني التخلي عن منهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية، فهي وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة، كما أنها خير معين في قبول أو رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ أمتنا، و لكن الإفادة منها ينبغي أن تتم بمرونة آخذين بعين الاعتبار أن الأحاديث غير الروايات التاريخية، وأن الأولى نالت من العناية ما يمكنها من الصمود أمام قواعد النقد الصارمة.

و هذا التفريق بين ما يتشدد فيه من الأخبار و يتساهل فيه نلحظه بوضوح في تصرف الحافظ ابن حجر رحمه الله في جمعه بين الروايات في كتابه الفتح، ففي الوقت الذي يقرر فيه رفض رواية محمد بن إسحاق إذا عنعن و لم يصرح بالتحديث، و رفض رواية الواقدي، لأنه متروك عند علماء الجرح والتعديل فضلاً عن غيرهما من الإخباريين الذي ليس لهم رواية في كتب السنة من أمثال عوانة والمدائني، فإنه يستشهد برواياتهم، و يستدل بها على بعض التفصيلات، و يحاول الجمع بينها و بين الروايات الأخرى التي هي أوثق إسناداً.

و هذا يدل على قبوله لأخبارهم فيما تخصصوا فيه من العناية بالسير والأخبار، و هو منهج معتبر عند العلماء المحققين وإن لم يقبلوا روايتهم في الأحكام الشرعية، فنجد ابن حجر يقول في محمد بن إسحاق: إمام في المغازي صدوق يدلس.طبقات المدلسين (ص 51). و يقول عن الواقدي: متروك مع سعة علمه. التقريب (2/ 194). و يقول في سيف بن عمر: ضعيف في الحديث، عمدة في التاريخ. التقريب (1/ 344).

و هذا الذي ذكرت هو المنهج الذي أسير عليه في تضعيف و تصحيح و ترجيح ما أورده من مرويات في أثناء طرحي للمواضيع التاريخية ..

أخوك: أبو عبد الله الذهبي ..

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير